نشرت بجريدة "البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 12-3-2018
القضية المركزية المستجدة :
تحرير سوراقيا من "اسرائيل الكبرى"
د. عصام نعمان
ما زالت فلسطين ، نظرياً ، قضية العرب المركزية. انها كذلك في نظر الفلسطينيين والعروبيين في شتى ارجاء الوطن الكبير . لكن مركزيتها انحسرت في الواقع بعد اتفاق اوسلو 1993 وامتناع "اسرائيل" عن تنفيذ بنوده، وتفريغ المشروع الوطني الفلسطيني تالياً من مضمونه الكفاحي التحريري ، وإلهاء اصحابه بمفاوضات متطاولة لامجدية مع عدوٍ صهيوني رافضٍ لقيام دولة غير "اسرائيل" بين نهر الاردن والبحر المتوسط ، وانهيار النظام العربي الإقليمي بعد اندلاع انتفاضات "الربيع العربي" المزعوم ، ونجاح الإرهاب التكفيري ، بدعمٍ من دول كبرى واخرى اقليمية، في السيطرة على مناطق كثيفة السكان وغنية الموارد في العراق وسوريا وليبيا واليمن ما ادى الى إغراق هذه الاقطار في دوامة أزماتها الداخلية.
في غمرة هذه الازمات والإضطرابات المتناسلة ، نشأ تحدٍّ جديد بالغ الخطورة . انه قيام الولايات المتحدة ، بدعوى مواجهة الارهاب ، بتطوير تدخلها العسكري في سوريا والعراق من عمليات قصف وتدمير بطائرات "التحالف الدولي" الى إنزال قوات برية ومدّرعة في مواقع متعددة داخل سوريا والعراق. ففي شماليّ شرق سوريا اليوم نحو 20 قاعدة برية ومهابط جوية لاميركا ، ناهيك عن قاعدتها وقواتها في منطقة التنف في جنوبي شرق سوريا على مقربة من حدودها الشرقية مع العراق وغير بعيدة من حدودها الجنوبية مع الاردن.
مسؤولون سياسيون وعسكريون اميركيون كبار اعلنوا مرات عدّة ان اميركا لن تسحب قواتها من سوريا والعراق إلاّ بعد القضاء نهائياً على تنظيمات الإرهاب. والحال ان "الدولة الإسلامية" الداعشية سقطت في الموصل ، كما في عاصمتها الرقة ، ولم يبقَ لها في العراق وسوريا سوى بضعة جيوب محدودة ومطوقة ولا فعالية لها. مع ذلك يلمّح المسؤولون اياهم الى ان انسحاب القوات الاميركية قد يستغرق سنوات . لماذا؟
لأن مهامَ اخرى ، على ما يبدو ، ستُسند اليها في الحاضر والمستقبل المنظور . فالرئيس الاميركي ترامب ما زال مصمماً على تعديل بعض بنود الاتفاق النووي مع ايران ، ونائبه بنس اعلن في مؤتمر اللوبي اليهودي الاميركي "ايباك" الاخير ان واشنطن ستنسحب خلال اشهر من الإتفاق النووي اذا لم يتمّ تعديله. الى ذلك ، يؤكد نتنياهو انه اتفق مع ترامب، خلال اجتماعهما الاخير ، على منع ايران من تصنيع اسلحة نووية او إقامة قواعد عسكرية في سوريا.
تصعيد لهجة المسؤولين الاميركيين والإسرائيليين ضد ايران وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية رافقتها مناورات واسعة اجراها الجيشان الاميركي والإسرائيلي وستستمر اسابيع لمحاكاة تعرّض الكيان الصهيوني لهجوم صاروخي شامل على اكثر من جبهة ، بينها الحدود الشمالية مع لبنان والحدود الجنوبية مع قطاع غزة.
قائد سلاح الدفاع الجوي الإسرائيلي الجنرال تسفي حايموفيتش اعلن امراً بالغ الخطورة : بحسب ما يجري في المناورات ، فإنه عند إصدار الاوامر ستنتشر القوات الاميركية في الكيان الى جانب القوات الإسرائيلية سعياً لحمايته من اطلاق الصواريخ والقذائف. وبالتوازي مع هذه المناورات، ستُجري قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية يوم غد الثلاثاء مناورة لإختبار جهوزية الكيان والرد على قصف صاروخي مكثف يستهدف المناطق الحيوية فيه. اللافت ان اعلان الجنرال حايموفيتش هذا اقترن للتوّ بتأكيدٍ من قائد القوات الاميركية في المناورات الجنرال ريتشارد كلارك مفاده "ان كبار قادتنا سيلتزمون طلب الحكومة الإسرائيلية وسنكون جاهزين للتنفيذ". ومن تراهم يكونون "كبار قادتنا" غير ترامب ووزير دفاعه الجنرال ماتيس وسائر جنرالات هيئة الاركان المشتركة للجيوش الاميركية ؟
بات واضحاً ان ثمة مخططاً لاميركا ذا أبعاد متعددة يوجّه سياستها وتحركاتها في غرب آسيا ولاسيما في سوراقيا (سوريا والعراق) وانه ينطوي على الآتي :
-
تثبيت القواعد العسكرية الاميركية في كلا القطرين ورفدهما بقوات برية ومدرعات وطائرات وصواريخ بالستية بعيدة المدى.
-
قطع جسر التواصل البري بين سوريا والعراق الذي تحقق بعد تحرير البلدتين الحدوديتين: البوكمال السورية والقائم العراقية غير البعيدتين من منطقة التنف السورية حيث تنتشر القوات الاميركية.
-
قيام اميركا بإستعمال قوات سوريا الديمقراطية "قسد" الكردية (التي سلّحتها) في شماليّ شرق سوريا في تنفيذ مهمات يتطلبها مخطط تقسيم سوريا والعراق او إضعافهما ، في الاقل، وذلك بترسيخ مناطق حكم ذاتي للكرد المتعاونين معها وتوظيفهم في وضع يدها على منابع النفط والغاز في محافظات دير الزور والرقة والحسكة.
نحن في بلاد الشام وبلاد الرافدين اضحينا امام تحدًّ بازغ وخطر داهم: انعقاد شراكة استراتيجية بين "اسرائيل الكبرى" التي اسمها اميركا و"اسرائيل الصغرى" التي اسمها الكيان الصهيوني موضوعها إرساء حضور عسكري فاعل للأولى في سوراقيا يكون منطلقاً لتحقيق ثلاثة اغراض استراتيجية :
-
تفكيك سوراقيا ، شعباً ومؤسسات ، و الحؤول دون نهوضها بكل الوسائل الممكنة.
-
تحويل سوراقيا ، في ظل الهيمنة الصهيواميركية ، جداراً فاصلاً وقاصماً ظهر الوجود العربي الممتد بين الهلال الخصيب (الكئيب) من جهة ووادي النيل والجزيرة العربية من جهة اخرى.
-
اعتماد سوراقيا المكبّلة بقيود الهيمنة الصهيواميركية قاعدةً لمواجهة ايران وعزلها عن بيئتها الاقليمية، سياسياً وإقتصادياً واستراتيجياً، وصولاً الى محاولة ضربها وتقزيمها.
اجل ، لا غلوّ في توصيف الولايات المتحدة بأنها "اسرائيل الكبرى" . فقد باتت ، او كادت ، في قبضة شبكة من الساسة واهل القرار والتفكير والتدبير تعتنق افكارَ واوهام المسيحية الصهيونية العنصرية المعادية للعرب والمسلمين وللإسلام الذي تسمّيه "الإسلام الإرهابي" . هذه الشبكة شديدة التعصب والعصبية ولن تتورع عن اللجؤ الى اعلى درجات العنف والتدمير لتنفيذ اغراضها وحماية مصالحها .
في ضوء هذا التحدي والخطر الداهم يرتقي هدف تحرير سوراقيا من هيمنة "اسرائيل الكبرى" ، كما "اسرائيل الصغرى" ، الى مرتبة القضية المركزية الاولى في حاضر الوجود العربي ومستقبله المنظور الامر الذي يجعل أية مقاربة او معالجة للقضايا والازمات التي تعصف بسائر الاقطار العربية ، ولاسيما المشرقية منها ، محكومةً ومتواقفةinterdependent على واقع الصراع ومستقبله من اجل تحرير سوراقيا وتوحيدها واعادة اعمارها وتنميتها.
الصراع معقّد ومتوقّد وطويل.