نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 5/3/2018
ماذا بعدها ؟
مظلة نووية روسية من قزوين الى المتوسط
د. عصام نعمان
الحرب الباردة صناعة وممارسة لا يتقنها إلاّ الكبار. هم خمسة او ستة متفوقون ايضاً في الصناعة النووية ، ولا سيما في انتاجها الحربي. اثنان بين هؤلاء الكبار متفوقان اكثر من غيرهم : اميركا وروسيا.
اميركا كرّست تفوقها بكونها أُولى صانعي القنبلة النووية وأُولى مستعمليها في الحرب ضد اليابان سنة 1945 . روسيا كانت الثانية في صناعتها ، لكنها لم تستعمل السلاح النووي ... بعد . هل تفعل ؟
فلاديمير بوتن اوحى بذلك. متى ؟ الجواب : "في حال الإعتداء علينا بأسلحة نووية او تقليدية". ماذا يعني بكلمة "علينا" ؟ الجواب : "ردّ فوري قوي على اي ضربة نووية ضد روسيا او حلفائها". هذا الجواب يستدعي سؤالاً آخر: مَن هم حلفاء روسيا ؟ بوتن لم يذكر اسماءهم خلال خطابه الاخير المدوّي. قد يفعل لاحقاً وتباعاً خلال سنيّ ولايته التي ستستمر، غالباً، لغاية 2024.
كي لا يبقى ما يقوله كلاماً فضفاضاً ، أضفى بوتن عليه صدقّية جدّية بتوفير معلومات دقيقة ولافتة . فقد خصّص نحو ساعة من خطابه امام مجلسيّ الدوما (البرلمان) لعرض اسلحة "جديدة رائعة " رداً على نشر الولايات المتحدة انظمة للدفاع الصاروخي وعلى استراتيجيتها النووية الجديدة ، معتبراً ان انسحابها سنة 2002 من معاهدة الحدّ من الاسلحة الهجومية الإستراتيجية هو ما اضطر بلاده الى "تطوير اسلحة حديثة لا نظير لها ولا بمقدور اي اسلحة اعتراضها " ، ابرزها :
-
منظومة صاروخية عابرة للقارات "غير محدودة المدى" ، وزن الصاروخ الواحد منها اكثر من 200 طن ، قادر على المناورة وتجاوز الرادارات ومنظومات الدرع الصاروخي.
-
صاروخ اسرع بنحو 20 مرة من سرعة الصوت بإسم "كينجال" (الخنجر).
-
صاروخ مجنّح لا مثيل له قادر على الوصول الى اي مكان في العالم ولا يمكن اعتراضه .
-
غواصة ذاتية التوجيه تعمل بالدفع النووي ، قادرة على حمل صواريخ تقليدية او نووية وإطلاقها من اعماق المحيطات.
لكن مَن هم ، تخميناً ، الحلفاء الذين يعتزم بوتن حمايتهم بمظلته النووية؟
من استقراء مواقف وتحركات روسيا ، سياسياً واستراتيجياً، خلال السنوات الخمس الماضية يمكن الإستنتاج ان ثمة حليفين اكيدين لها وثالثاً مرجَّحاً . الاوّلان ايران وسوريا والثالث العراق.
لماذا ايران وسوريا ؟ لأن مع الاولى ، كما مع الثانية ، تتلاقى مصالح روسيا النفطية والغازية ولاسيما خطوط نقل الصادرات الى اوروبا خصوصاً والعالم عموماً. كما لأن المصالح السياسية والامنية الروسية تتلاقى معهما في وجه الولايات المتحدة وسياستها الهجومية في غرب آسيا، ولاسيما في سوراقيا. ثم إن روسيا مضطرة الى الدفاع عن سوريا كون الاخيرة تحتضن قاعدة بحرية روسية في طرطوس واخرى جوية في حميميم ، قرب اللاذقية. اما العراق فإن موسكو لن تتردد في وضعه تحت مظلتها النووية ايضاً خاصةً في حال نجحت القوى السياسية العراقية المناهضة للولايات المتحدة في خوض معركة إجلاء قواتها المرابطة في انحاء مختلفة من بلاد الرافدين ما يؤدي الى تكامل خطط بغداد الدفاعية مع خطط دمشق وطهران.
الى ذلك ، فإن تطورات مهمة ومتوقعة قد تنشأ عن وضع المنطقة الممتدة بين بحر قزوين والبحر المتوسط في حمى مظلة روسيا النووية ، لعل ابرزها ثلاثة في المدى المتوسط :
-
عزوف ايران (وربما العراق وسوريا لاحقاً) عن التخطيط لتصنيع اسلحة نووية لشعورها بالآمان تحت المظلة النووية الروسية.
-
اتجاه مصر الى تطوير صناعتها النووية وصولاً الى تصنيع سلاح نووي لحماية أمنها القومي ودعم سياستها المستقلة (المحتملة) عن الجبارين الاميركي والروسي.
-
قيام الولايات المتحدة ، عاجلاً او آجلاً ، بوضع حلفائها في غرب آسيا في حمى مظلتها النووية ، على ان تبقى "اسرائيل" المستفيد الاول في هذا المجال.
ماذا عن تطورات المدى القريب ؟
تدرك الولايات المتحدة كما "اسرائيل" ان من شأن المظلة النووية الروسية دعم نفوذ ايران في الاقليم وتعزيز طموحاتها ، والإرتقاء بقدرات بشار الاسد الى مستوى اعلى وافضل يمكّنه من إستعادة وحدة بلاده وسيادتها ، ومواجهة مخطط تركيا الرامي الى إقامة حزام امني داخل شمال سوريا وعلى طول حدودها معها بدعوى مواجهة جهود الكُرد الإنفصالية.
"اسرائيل" تستهول ، على ما يبدو، حجم التحديات والمخاطر المشعّة من ايران وقوى المقاومة المدعومة منها. فريق من قيادتها السياسية والعسكرية يلاحظ بغبطة إنشغال سوريا بنفسها وبتحركات اميركا المشبوهة انطلاقاً من قواعدها العسكرية في مناطق الحسكة والرقة والتنف ، ومطامع تركيا التوسعية وحروبها ضد الكرد ، فيدعو الى انتهاز الفرصة لمدّ الوجود العسكري الاميركي ، مباشرةً او مداورةً ، الى غوطة دمشق الشرقية ولتوسيع دعم "اسرائيل" العسكري لفصائل المعارضة المسلحة في الجنوب على حدود الجولان المحتل . كل ذلك بغية تقويض حكم الاسد في اطار مفاوضات مستأنَفَة في جنيف لصياغة نظام سياسي لسوريا يؤمّن مصالح الغرب الاطلسي وحلفائه الاقليميين.
أطرافُ محور المقاومة ، مدعومينَ بروسيا المتربصة بأميركا الترامبية، سيواجهون بالتأكيد وبلا إبطاء مخططات اميركا و"اسرائيل" وهجماتهما المرتقبة . ذلك سيؤدي ، بطبيعة الحال ، الى ردود فعل اسرائيلية واميركية متناسبة او غير متناسبة. فهل تستعر الحرب الباردة بين اميركا وروسيا ؟ وهل تتطور سخونتها المتصاعدة الى حد استعمال الأسلحة النووية التكتيكية (اي المعدّة للمدى القصير وبجرعة مخففة) التي حذّر بوتن اميركا في خطابه المدوّي من عواقب استعمالها؟
الاجوبة المحتملة شتى ومرعبة ...