الإنحطاط جاهلية معاصرة... كيف نخرج منها ؟
نشرت بجريدة "البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 26/2/2018
الإنحطاط جاهلية معاصرة... كيف نخرج منها ؟
د. عصام نعمان
دُعيتُ مع كثيرين من الباحثين والمتخصصين والكتّاب من شتى بلاد العرب وغرب آسيا واوروبا للمشاركة في المؤتمر الاقليمي الثامن الذي نظمه ، على مدى خمسة ايام ، مركز البحوث والدراسات الإستراتيجية في الجيش اللبناني. موضوع المؤتمر كان "دعم الإستقرار والتنمية في الدول العربية ومنطقة الشرق الاوسط". اوراقٌ ودراسات عدّة جرى تقديمها في إطار محاور المؤتمر الثلاثة . ورقتي قدّمتها في إطار المحور الثالث: "انظمة الحكم ومستقبل المسار الديمقراطي في المنطقة–العلاقات الإقليمية والدولية".
رافقَت تقديم الاوراق والأبحاث وأعقبتها مناقشاتٌ مستفيضة ومتوقّدة أسبغت على فعاليات المؤتمر حيوية دافقة . قلتُ في مناقشة بعض التعليقات على الاوراق والأبحاث إن حال العرب اليوم شبيهة بما كانوا عليه من إنقسام وإنحطاط عشية غزو الفرنجة (الصليبيين) بلاد الشام (ومن ثم وادي النيل) سنة 1109م : مجموعة امارات ومشيخات متباعدة ، متنافرة، ومتحاربة وعلى قدْر كبير من الضعف والهزال. احتلالُ الفرنجة دام نحو 180 سنة. بعدهم جاء الايوبيون الكُرد وحكمهم الذي دام 200 سنة. ثم جاء المماليك (مجاميع من كرد وترك وكرج) ودام تحكمهم نحو 350 سنة. بعدهم بسط الأتراك العثمانيون سلطانهم الذي دام نحو 400 سنة ، ثم جاء البريطانيون والفرنسيون الذين دام انتدابهم (استعمارهم) اكثر من 40 سنة. كل ذلك عدا نفوذ اميركا وحكمها غير المباشر لبلدان عربية عدّة بعد الحرب العالمية الثانية ، وهو ما زال مستمراً في بعضها.
المؤرخ المصري الدكتور شارل عيساوي ألّف كتاباً سنة 1960 أثبت فيه انه على مدى ألف سنة حكَمَ العرب حكامٌ اجانب. يُستخلص من ذلك انه اذا كان عمر الإسلام اليوم يربو على 1439 سنة ، فإن العرب المسلمين لم يحكموا انفسهم بأنفسهم سحابةَ تاريخهم بعد الإسلام إلاّ 439 سنة، وربما اقل .
لعل مردّ ذلك الى ان الجاهلية ما زالت متجذّرة في اعماقنا ، وانها حاضرة وفاعلة في تفكيرنا وتدبيرنا وفي ثقافتنا وسلوكنا الاجتماعي . ليس أدل على الحضور المعاصر للجاهلية في حياتنا من ظاهرة الشقاق المزمن الذي يصل الى حدّ التناحر والتقاتل بين اهل السنّة واهل الشيعة في معظم البلدان العربية والإسلامية.
الجاهليةُ من الجهل . والجهل ، بحسب "لسان العرب" ، نقيض العلم. والجاهلية ليست نقيض العلم فحسب بل هي ايضاً "الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله سبحانه ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكِبْر والتجبّر وغير ذلك".
من التدقيق في بعض ممارسات المتشددين والتكفيريين في بلادنا هذه الايام ، يتضح ان "الجهل بالله سبحانه ورسوله وشرائع الدين" ما زال سائداً. اما "المفاخرة بالأنساب والكِبْر والتجبّر" ، فحدّث ولا حرج .
الجاهلية ما زالت ، اذاً ، مستمرة في حاضرنا مثلما كانت سائدة في ماضينا. اجل ، ثمة جاهلية معاصرة لا سبيل الى تجاهلها ، ولعلها "تمتاز" عن جاهلية الماضي قبل الإسلام بعيوب اضافية ابرزها إنكار الآخر او عدم الإعتراف به. أليس الصراع المحتدم بين المذاهب الإسلامية مظهراً من مظاهر عدم الإعتراف بالآخر ؟
لا غلوّ في القول إن الجاهلية المعاصرة هي ثقافة ماضوية ، ركودية، ومتخلّفة. الخروج منها يكون بالتغيّر الثقافي . هذا التغيّر ينهض به مثقفون تحرروا من الثقافة الماضوية ، ثقافة التقاليد الشائخة ، ثقافة الطاعة والخضوع لأولي الأمر ايّاً كانوا. الخروج من الجاهلية المعاصرة يكون بالتحرر منها واعتناق ثقافة الحرية ، ثقافة العقل والنقد والإنفتاح على العصر بكل فواعله وتحوّلاته .
المثقف ، بما هو كائن حي عاقل وعارف، يعي حقيقة الوجود المفصح دائماً عن تناقضات وتحوّلات. هذا الوعي المبكر بحقيقة التناقضات والتحوّلات وحركيتها في الوجود الشامل ، ومن ضمنه الحياة الإنسانية ، هو أُولى مزايا المثقف واكثرها إلتصاقاً بشخصيته وسلوكيته .
يعي الإنسان المثقف هذه الحقيقة الساطعة – التناقضات والتحوّلات الدائمة في الحياة والثقافة – فيصبح جزءاً منها ومعبّراً عنها . انه جزء حيّ، داخل نفسه وفي مجتمعه ، ومرآة هذه التناقضات والتحوّلات . لذا يكون المثقف في حالة تقويم evaluation دائم لهذه التناقضات والتحوّلات وبالتالي في حالة نقدٍ لها.
الثقافةُ ، بما هي نتاج المثقفين على مرّ الزمن ، سجلٌ حافل للنقد المتواصل . بإختصار ، الثقافة هي النقد ، والمثقف هو الناقد الدائم بل المحترف الدائم للنقد.
إن التحوّل العظيم بإلتزام النقد والحوار من اجل النهوض والإرتقاء هو مهمة المثقفين الملتزمين الشرفاء في مجتمعنا وعصرنا.
في هذا المجال ، ألتقي مع القائلين بضرورة ان يعتمد المثقف في سلوكه وعمله الصدق والشجاعة والمقاومة حتى حدود الشهادة . بل لا بدّ احياناً من ان يركب الاخطار لتحقيق إلتزامه الفكري والسياسي حتى حدود ملامسة الجنون.
تحضرني في هذا المجال قولة كزنتزاكس ، حامل جائزة نوبل للادب، بلسان بطل رائعته "زوربا اليوناني" : "بقليل من الجنون نغيّر العالم "!
كما تحضرني قولة ديغول عندما خاطب انصاره في أحد المنعطفات التاريخية للمقاومة الفرنسية إبّان الاحتلال النازي لبلاده : "تعقّلوا واطلبوا المستحيل كالمجانين"!
اجل ، آن الاوان كي نطلب ، من اجل التغيّر الثقافي ، المستحيل كالمجانين.