نشرت بجريدة"القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 29/1/2018
سيناريو التسوية بين واشنطن وانقرة :
اميركا في شرق الفرات ... وتركيا في غربه
د. عصام نعمان
الصراع السياسي والعسكري ما زال محتدماً في سوريا وعليها . واشنطن تؤجج الصراع العسكري من خلال وكلائها الميدانيين . حلفاؤها الكُرد في شرق الفرات متربصون بالجيش السوري غرب النهر وبالجيش التركي شمال منطقة عفرين غرب البلاد. موسكو تركّز جهودها على إنجاح مؤتمر سوتشي الذي دعت اليه اكثر من 1600 شخص ينتمون الى مختلف الفئات والجماعات والطوائف والمذاهب والاثنيات والاحزاب السورية ، لكنها تبقى مستنفَرَة لدعم الجيش السوري اذا ما تطلّبت جهوده العسكرية ذلك .
غير ان احتدام الصراع السياسي والعسكري لا تُوقف اتصالات ومحادثات تجري بين اللاعبين الكبار والصغار ، كما لا تحجب مخططات يجري اعدادها لإيجاد تسوية للصراع تخدم مصالح الكبار قبل الصغار بطبيعة الحال.
في هذا المجال ، يتبلور مشروع سيناريو للتسوية بين واشنطن وانقرة. جوهر المشروع تمكينُ تركيا من إقامة "منطقة آمنة" في شمال سوريا بعمق 30 كيلومتراً غربيّ الفرات على ان تبقى القوات التركية وحلفاؤها بمنأى عن مناطق البلاد شرقيّ النهر . هذا يعني ان تضع انقرة يدها على كل مناطق سوريا الشمالية من عفرين في الغرب الى منبج في الشرق، وان تبقى لواشنطن وحلفائها الكُرد اليد العليا على مناطق محافظتي الرقة والحسكة شمال شرق البلاد.
حكومة انقرة كانت حاولت منذ سنتين اقامة هذه "المنطقة الآمنة" المقترحة ، لكن تحرير حلب من وكلاء تركيا واميركا الميدانيين من جهة ، ومعارضة الكُرد السوريين ، بدعم من اميركا ، من جهة اخرى حالا دون تنفيذ هذا المخطط التقسيمي . الآن ، بعدما إنهار تنظيم "داعش" في معظم انحاء سوريا وتمكّن الكرد ، بمساعدة اميركا ، من السيطرة على محافظة الحسكة ومعظم محافظة الرقة ومنطقة عفرين ، وقيام انقرة بتجريد حملة عسكرية للإستيلاء على عفرين ، وتهديدها بالتقدم للسيطرة على منبج ايضاً حيث لاميركا قوات برية ومدرعات ومطارات ، عدّلت واشنطن موقفها فأخذت تنادي بإقامة شريط حدودي دفاعي بين شمال سوريا وجنوب تركيا يؤمّن مصلحة هذه الاخيرة . لكن انقرة طالبت واشنطن بسحب قواتها فوراً من منبج.
انقرة رحبت ضمناً بهذه المبادرة الاميركية ، لكنها لم توافق عليها علناً ... بعد. السبب ؟ لأنها لا تثق بواشنطن ، كما لمّح الى ذلك وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو في تعليقه على المبادرة المذكورة . ذلك ان انقرة تعتقد ان واشنطن تموّل وتسلّح "قوات حماية الشعب" الكردية وانها وعدت قادتها بأمرين : عدم السماح للجيش السوري ، كما للجيش التركي ، بالسيطرة على مناطق شمال سوريا بعد طرد التنظيمات الإرهابية منها ، كما وعدتهم بالدعم السياسي اللازم لإقامة كيان كردي منفصل عن دمشق في شمال شرق سوريا.
إزاء الخطر الماثل بتقدّم الجيش التركي وحلفائه ("الجيش الحر" وبعض الفصائل المحلية المسلحة المتحالفة معه) داخل منطقة عفرين ، قامت ادارة الحكم الذاتي التي يقودها الكُرد في المنطقة بدعوة الحكومة السورية "للقيام بواجباتها السيادية تجاه عفرين وحماية حدودها مع تركيا من هجمات المحتل التركي".
دعوةُ الكُرد العفرانيين هذه مضحكة ومرتجلة في آن. مضحكة كون الكرد هم البادئين في انتهاك سيادة سوريا بتعاونهم العسكري مع تركيا واميركا . مرتجلة كون استنجادهم بالجيش السوري لحمايتهم لم يتضمن اي التزامات او اجراءات محددة لتأمين قيامه بالمهمة المطلوبة. غير ان ذلك لا يمنع كلا الطرفين من تدارك الخطر المحدق والقصور الكردي بإتخاذ قادة الكرد جميعاً في الحسكة قراراً حاسماً بالإنفصال عن اميركا وتركيا معاً .
ماذا عن واشنطن موسكو ودمشق ؟
واشنطن منخرطة ، على ما يبدو ، في تنفيذ استراتيجيتها الهجومية الجديدة التي اعلنها وزير دفاعها جيمس ماتيس اخيراً وتتلخص بمجابهة الصين وروسيا بوصفهما "قوتين رجعيتين" بدءاً بسوريا وصولاً الى الشرق الاقصى. الى ذلك ، تنهمك ادارة ترامب بمخطط لتصفية قضية فلسطين وذلك بتكريس القدس عاصمة لـِ "اسرائيل" وعدم إستئناف دفع المساعدات المالية التي قطعتها عن الفلسطينيين إلاّ بشرط عودتهم الى المفاوضات مع القبول بإقصاء القدس عن طاولتها . فوق ذلك ، تسعى ادارة ترامب الى إبقاء قواتها في شمال شرق سوريا كإحتياط لدعم الكرد السوريين في الإستحصال على كيان سياسي لهم منفصل عن دمشق وذلك في إطار مخطط متعدد الجوانب لتفكيك سوريا الى جمهوريات موزٍ تقوم على اسس قَبَلية ومذهبية وأثنية ، وقد جرى تعزيز هذا المخطط بوثيقة قدمتها اميركا وبريطانيا وفرنسا والسعودية والاردن الى مؤتمر فيينا الاخير تدعو الى اقامة نظام كونفدرالي فيها .
موسكو ما زالت ملتزمة دعم سوريا لإستعادة سيطرتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني ، وقد نددت مؤخراً بمساعي اميركا لتقسيم سوريا ، وهي جادة في مساعيها لإنجاح مؤتمر سوتشي بغية انتاج حل سياسي مدخله التصويت الشعبي على مستقبل البلاد. هذه السياسة بكل جوانبها ترشح موسكو لصراع سياسي طويل الامد مع واشنطن المعادية لحكم الرئيس بشار الاسد والتي تقود ، بمشاركة فرنسا ، حملة مسعورة لإتهام سوريا بأنها مسؤولة عن استخدام اسلحة كيميائية ضد شعبها.
وهي جادة في مواجهتها سياسياً وعسكرياً بالتعاون مع ايران وبالتحالف الميداني مع قوى المقاومة اللبنانية والعراقية . في هذا الإطار تجاري دمشق موسكو في مساعيها الديبلوماسية الحثيثة سواء في استانه او سوتشي لإيجاد تسوية سياسية للصراع المحتدم ، لكنها تصرّ على متابعة حربٍ لا هوادة فيها على التنظيمات الإرهابية والقوى المضادة ، الدولية الاقليمية ، التي تتواطأ على تقسيمها او على انتزاع مناطق نفوذ لها فيها. لذا لن تهرع دمشق الى تحريك جيشها في الوقت الحاضر لنجدة كرد عفرين ضد الجيش التركي وحلفائه بل ستقوم بدعوة الكرد المتمردين في شرق البلاد وغربها الساعين لإقامة نظام فدرالي في البلاد الى وقف تعاونهم مع اميركا ودعوتها بالتالي الى سحب قواتها المتواجدة والمتربصة شرق الفرات ، والى التفاهم مع دمشق على اسس سياسية ودستورية لحل سياسي ديمقراطي يؤمّن مشاركة الكرد في الحياة السياسية وسلطات الدولة المدنية المنشودة بالتساوي التام مع سائر المواطنين السوريين .
الصراع محتدم وطويل ، وكذلك المساعي الرامية الى تطويقه.