نشرت بجريدة "البناء"و"القدس العربي"
تاريخ 2/1/2018
2018 : سنة اللاعبين الخمسة
د. عصام نعمان
في عالم العرب اكثر من عشرين "دولة" ، ليس بينها دولة واحدة متماسكة ، فهي متعثّرة او متهدّمة او متفككة .
بلاد العرب ساحات يتبارى فيها لاعبون من غير العرب ، لاعبون كبار وصغار . الكبار خمسة : اميركا وروسيا وايران وتركيا و"اسرائيل" . الصغار كثر، هم العرب انفسهم : حركة بلا بركة .
شعوب العرب غفيرة ، كثيفة . غالبيتها متفرجة ، أقليتها منخرطة في ما يجري من اعمال وعمليات أو يُعدّ لها من مسارات ومصائر .
كيف يمكن ترجمة هذه اللوحة السوريالية الى خريطة سياسية على عتبة العام 2018 ؟
اميركا يرأسها رجل اعمال نَزِق ، هوايته إطلاق تغريدات اقرب ما تكون الى نزوات واهواء وردود افعال ، يسارع بعدها وزراؤه ومساعدوه الى تهذيبها وترصينها ووضعها في السياق العام لسياساتٍ مرسومة تتعهدها مؤسسات واجهزة متمكّنة ومتجددة . صحيح ان دونالد ترامب نسيج وحده في فرادته التعبيرية ، لكنه ايضاً ناطق صريح بلسان تيار عريض من الاميركيين المحافظين الانغلوساكسونيين البيض والمتبرمين بغيرهم من الجماعات الملوّنة ذات الاصول الافريقية والاميركية اللاتينية والاسيوية ولا سيما منها ذات الديانة الإسلامية . الى ذلك ، يستشعر قادة الرأي بين هؤلاء المحافظين المتوترين خطراً على مكانة اميركا ومصالحها من قوى صاعدة ابرزها الصين وروسيا وايران والاتحاد الاوروبي . في وجه هؤلاء جميعاً يرفع ترامب وعصبته شعار "اميركا اولاً" .
يجد هذا الشعار ترجمته السياسية في تدابير ثلاثة رئيسة: تقليص مساهمة اميركا السياسية والمالية والعسكرية في منظمات دولية كانت تعمل لعقود في خدمتها، ابرزها الامم المتحدة وحلف شمال الاطلسي ، وتدفيع بعض الدول المحمية اجور حمايتها الامنية كالسعودية ، مثلاً ، التي غرّمها ترامب اتاوةً لا تقلّ عن 500 مليار/بليون دولار ، ومحاربة الإسلام والمسلمين بدعوى انهم منبع الارهاب والارهابيين ودعاته ومنفذوه .
في عالم العرب والمسلمين تتبدّى سياسة اميركا الترامبية اكثر ما يكون في الإحتضان العضوي للكيان الصهيوني ، وفي العداء الغريزي لإيران بما هي التجسيد الابرز لما يسمى "الإسلام الارهـــابي". في هذا السياق جرى الإعـــلان عن القـدس عـاصمــةً لـِ"اسرائيل" ونقل السفارة الاميركية اليها ، والضغط على بعض دول الخليج لمباشرة مسارٍ من التطبيع معها ، وتكثيف الحضور العسكري الاميركي في سوريا (والعراق) لضمان احتضانِ الكرد السوريين عسكرياً وسياسياً كي يكونوا مرتكزاً وذريعة لإطالة امد الحرب في سوريا وعليها ، ولعرقلة تواصلها الجغرافي والسياسي والعسكري مع العراق ، ولخدمة "اسرائيل" المتخوّفة من اقامة جسر بري يمتد من طهران الى بيروت، وربما إقامة قواعد عسكرية ايرانية في العمق السوري و/أو على ساحلها المتوسطي.
في مقابل اميركا ، وليس في وجهها بالضرورة ، تنشط روسيا لتركيز ودعم حضورها ونفوذها في منطقة غرب آسيا الممتدة من شواطئ بحر قزوين الى شواطئ البحر المتوسط . وفي مقاربتها السياسية والتنفيذية للاحداث ، تسعى موسكو الى دعم سوريا في جهودها الرامية لإستعادة وحدتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني وذلك من خلال قاعدتيها الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس ، ودورها النافذ في مؤتمرات جنيف واستانة وسوتشي ، وتعاضدها السياسي واللوجيستي مع ايران ، وتعاونها السياسي والديبلوماسي مع تركيا ، وتنسيقها الميداني والسياسي مع اميركا لتفادي صدامات عسكرية . الى ذلك ، تطمح روسيا الى تعاون اقتصادي ، نفطي وغازي ، مع ايران والعراق وقطر وسوريا ولبنان غايته التحكم في نقل النفط والغاز الى دول اوروبا .
ايران ماضية في ثورتها السياسية والانمائية والتكنولوجية . هي تستشعر عداء اميركا واسرائيل الغريزي لها وتتحسب لعدوان مرتقب . الحرب الاميركية الناعمة عليها قائمة منذ قيام ثورتها العام 1979 ، لكنها ستتصاعد بأشكال متعددة خلال ولاية ترامب . طهران لا تستبعد هجوماً اسرائيلياً، بالتواطؤ مع اميركا وربما بمشاركتها، يستهدف بالصواريخ والقاذفات الإستراتيجية مراكز صناعتها النووية ومواقع انتاج نفطها وتصديره بقصد شلّها اقتصادياً وعسكرياً . لذا تقوم بدعم وسائل امنها القومي من خلال خطة استراتيجية ذات اهداف ثلاثة : تسريع ثورتها التكنولوجية ومضاعفة انتاجها وفعاليتها في ميادين الصواريخ الباليستية والطائرات الحربية المتطورة والإتصال السيبراني ؛ وتوسيع دعمها الفني واللوجيستي لحلفائها ولاسيما قوى المقاومة العربية المشتبكة مع "اسرائيل" ؛ والسعي الى الإقتراب ميدانياً من "اسرائيل" بإقامة قواعد جوية وصاروخية في سوريا لدعم رادعها الدفاعي بقوة نارية هائلة تعوّض نقصها في السلاح النووي الذي يمتلكه العدو.
تركيا يحركها هاجسان رئيسان : الاول حرصها على وحدتها الجغرافية والديموغرافية التي يهددها كُرد الداخل وكرد الجوار الساعين الى دولة إنفصالية ، والثاني مواجهة رفض انتسابها الى الاتحاد الاوروبي وذلك بالتوجه شرقاً بقيادة رجب طيب اردوغان الإسلامي المترسمل بالارث العثماني لتزعّم عالم الإسلام المنتشرة شعوبه في قارات ثلاث ، ولتكبير اقتصاد تركيا تالياً وتوسيع مصالحها ومشاريعها واسواق صناعتها وتجارتها . في سعيه الى تحقيق الاغراض سالفة الذكر ، يوظّف اردوغان سلاحين جاهزين : موقع تركيا الإستراتيجي الفاصل والواصل بين قارتين وبحرين ، والاسلام الاخواني ذا الإنتشار المحسوس في بلاد الشام وبلاد الرافدين ووادي النيل والجزيرة العربية وشمال افريقيا . ذلك كله شجعه على انتهاز احداث دولية واقليمية لبناء حضور تركي سياسي وعسكري في قواعد بقطر والسودان ، وقبلهما في الصومال ، ولاستغلال نصرته السياسية والاعلامية لقضية فلسطين في زمن التراجع العربي الشامل .
"اسرائيل" ما زالت ممعنة في توسيع رقعة استيطانها ارض فلسطين التاريخية حتى اضحى اكثر من 78 في المئة من مساحتها الاجمالية في قبضتها ، هذا فضلاً عن استيلائها على الجولان في جنوب سوريا وعلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا في جنوب لبنان . الى ذلك ، تخطط اسرائيل لتهويد مناطق واسعة في القدس الشرقية والاغوار وبالتالي طرد سكانها العرب . ولا يستبعد خبراء استراتيجيون ان تقوم "اسرائيل" ، تحت حكم بنيامين نتنياهو واليمين العنصري المتطرف ، بشن هجوم يستهدف صناعة ايران النووية ومراكز انتاج وتصدير نفطها ، كما مهاجمة قواعد ومراكز وبيئات حاضنة ومساندة للمقاومة العربية في قطاع غزة و لبنان ، وذلك في محاولة يائسة لتصفية القضية الفلسطينية .
ألعاب والاعيب وصراعات اللاعبين الكبار والصغار في ساحات العرب وحدائقهم الخلفية ستتخللها تحالفاتٌ واتفاقات وخلافات بعضها مديد وبعضها الآخر عابر ومؤقت ، لكن الارجح ان فاعليها هم دائماً اللاعبون الخمسة الكبار وان المفعول بهم هم دائما العرب الصغار السائرون في ركاب اميركا ومهادنو دول الغرب الاطلسي ، وان الإستثناء الوحيد الممكن وغير المرجح هو فعل المقاومة الفلسطينية والعربية ، وهو غير مرجّح لأنه سيكون في طبيعته وتوقيته من طراز المفاجآت .