نشرت بجريدة"البناء" والخليج"
تاريخ 23/12/2017
الأوهام الإنفصالية للكرد العراقيين تبددت
فهل يتفادى ميثلاتها الكرد السوريون ؟
د. عصام نعمان
لكل بلدٍ عربي "ربيعه" . بدايته إنتفاضة شتائية مبكرة ونهايته مؤجّلة. "ربيع" كلٍ من تونس ومصر وليبيا بدأ في شتاء 2011 واليمن في 2015 ولمّا ينتهي بعد . كذلك "ربيع" سوريا ، بدأ في عزّ الربيع ، 15 آذار/مارس 2011، ولم ينتهِ. انه اطول "ربيع" بين امثاله إذ خَتمَ سنته السادسة ودخل السابعة وما زالت غيومه ملبّدة في سماء شرق البلاد وغربها . لكن ، ثمة أملاً متنامياً بإنقشاعٍ قريب .
العراق كان وما زال في حال "ربيع" متكرر الفصول وعلى مدى سنين . لعل "ربيعه" الاقسى بدأ مع حرب اميركا عليه في العام 2003. لكن ، ما ان انحسرت غيومه بضعة اشهر حتى عادت الى التلبّد والتفجّر. آخر فصوله الكالحة بدأ في ايلول/سبتمبر الماضي في كردستان العراق مع إصرار مسعود برزاني على إجراء إستفتاء لفصل الاقليم الكردي عن العراق الإتحادي. كل الدول المحيطة بالعراق توافقت مع حكومته المركزية على رفض الإستفتاء الملغوم . حتى اميركا التي كانت ايّدته ضمناً ، تظاهرت بمعارضته علناً.
سقط مسعود برزاني ومعه استفتاؤه الملغوم، لكن "ربيع" كردستان العراق لم ينحسر بعد. بالعكس ، غيومه السوداء تتلّبد بسرعة في كل ارجائه ، ولاسيما في محافظة السليمانية . فبينما كان رئيس الحكومة نيجيرفان برزاني ونائبه قباد طالباني يزوران المانيا إلتماساً لتدخلها في الأزمة المستعصية مع حكومة العراق المركزية ، اندلعت انتفاضة في مدينة السليمانية ما لبثت ان عمّت كل أرجاء الاقليم. التظاهرات الغاضبة والإضرابات الشاملة عمّت معظم المدن الكردية احتجاجاً على عدم دفع رواتب الموظفين ومطالِبةً بمقاضاة المسؤولين المتورطين بفساد عميم.
الإنتفاضة الكردية حظيت ، منذ ساعاتها الاولى ، بدعمٍ حار من منظمات حقوقية ونشطاء وقوى سياسية جديدة كحركة "الجيل الجديد" التي تشكّلت في اعقاب الإستفتاء بقيادة رجل الاعمال شاسوار عبد الواحد. الكرد المنتفضون لم يكتفوا بتنظيم التظاهرات والاعتصامات والإضرابات بل لجأوا الى مهاجمة مقار الاحزاب السياسية المشاركة في حكومة الاقليم ، مرددين شعار" الموت لبارزاني وليسقط طالباني" في اشارة الى القطبين السياسيين المحليين . اكثر من ذلك ، عمد المنتفضون الى احراق مراكز كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني ، وحزب الاتحاد الوطني ، وحركة التغيير ، والحزب الإسلامي ، والجماعة الإسلامية ، والى قطع الطريق بين السليمانية وكركوك ، والطريق بين كركوك واربيل . وتردد ان وحداتٍ من "البيشمركة" شاركت في التظاهرات إحتجاجاً على سعي الحكومة الى إخضاعها لقرار "الإدخار الإجباري" القاضي بخفض الرواتب الى اقل من النصف .
من الواضح ان الدافع الاول للإنتفاضة اقتصادي بعدما تضررت مالية الاقليم واقتصاده نتيجةَ الاجراءات العقابية التي اتخذتها الحكومة المركزية في بغداد وابرزها السيطرة على مدينة كركوك ومرافقها النفطية ، وقطع عائداتها الوفيرة التي كانت تصادرها حكومة الاقليم ، وحظر استعمال مطاريّ اربيل والسليمانية لدرجة ان ديون حكومة الاقليم تجاوزت في مجموعها 17 مليار/بليون دولار لشركات تركية وشركات ومصارف محلية وغربية . الى ذلك ، أدّت المتاعب والصعوبات الإقتصادية المضنية الى تعزيز المعارضة للتحالف السياسي الهش الذي يحكم الاقليم ، والى تصاعد المطالبة بإستقالة حكومة برزاني وتأليف حكومة انتقالية لمفاوضة الحكومة المركزية تحت طائلة إجراء انتخابات مبكرة لبرلمان الاقليم .
حكومة حيدر العبادي المركزية هي ابرز الرابحين من انفجار ازمة الاقليم. فهي لم تكتفِ بتشديد تدابيرها العقابية السياسية والاقتصادية بل بادرت ايضاً الى تحشيد القوات الاتحادية و"الحشد الشعبي" لمواجهة "البيشمركة" والسيطرة على الطريق التي تربط الموصل بكركوك بعدما استكملت السيطرة على المناطق المتنازع عليها في محافظة نينوى.
اذ تتحوّل انتفاضة الكرد العراقيين من حركة شعبية ضد الفساد والفئة الحاكمة الى صراع اهلي بين جماعات حزبية وسياسية متنافرة ، ينهض سؤال عمّا يجب ان تفعله الحكومة المركزية لوقف الإقتتال وحلّ الأزمة الناشئة عن تطرف بعض السياسيين الساعين الى الإنفصال. ذلك ان الازمة المستفحلة بين الكرد العراقيين لا تهدد وحدة العراق واستقلاله الوطني فحسب بل تنعكس ايضاً على الكرد السوريين الذين يعانون مشاكل وصعوبات مع مختلف الجماعات الإرهابية من جهة والحكومة التركية المتخوفة من تطلعاتهم الانفصالية من جهة اخرى . كما تتخوف الحكومة السورية من اعتماد فريق منهم نهجاً سياسياً مشبوهاً بتعاونه العسكري والسياسي مع الولايات المتحدة بل بتجنّده احياناً لخدمتها ضد الكفاح الوطني السوري ، الرسمي والشعبي ، لإستعادة السيطرة على كل مناطق البلاد.
حيال هذه التطورات والتحديات ، تعتمل في اذهان اهل الرأي في الوسطين الوطنيين العراقي والسوري أفكار نهضوية لافتة :
اولاها : أن لدى القادة الوطنيين العراقيين عموماً ورئيس الحكومة حيدر العبادي خصوصاً فرصة نادرة لمعالجة الأزمة العالقة بين الحكومة المركزية واقليم كردستان العراق وضرورة حلها داخل الاقليم كما من اجل حفظ وحدة العراق واستقلاله وسيادته ، على ان تبدأ المعالجة المرتجاة للتوّ وبمعزل عن قوى خارجية معروفة المطامع والمصالح والأغراض.
ثانيتها : ان المفتاح الرئيس للحل الوطني المتكامل هو الديمقراطية بما هي النظام الأعدل والأفعل لإدارة التعددية في جميع المحافظات العراقية وبين جميع مكوّنات شعب العراق ، وذلك في إطار دولة مدنية ديمقراطية يتوجّب على القوى الوطنية الديمقراطية كافةً المبادرة الى الحوار للتوافق على اسس بنائها والنهج الآيل الى وضعها موضع التنفيذ.
ثالثتها : ان الحوار الوطني الهادف والمطلوب يجب ان يتمّ قبل إجراء الإنتخابات العامة في شهر ايار/مايو 2018 كي تكون الإنتخابات اختباراً لمخرجات الحوار الوطني المنشود وفرصة لتأكيد التوافق الوطني على تعديل الدستور الحالي او سنِّ دستور جديد في البرلمان الجديد تكفل احكامه عروبة العراق وسيادته وديمقراطية نظامه السياسي وكفالة حكم القانون والعدالة والتنمية في الممارسة السياسية والإقتصادية .
رابعتها : انه يجب الأخذ في نظر الإعتبار واقع العراق الحالي ، اقليمياً ودولياً ، والتهديدات التي تحيق به من جميع النواحي ، ولا سيما من تنظيمات الإرهاب المدعومة من قوى دولية واقليمية كما من الكيان الصهيوني وحلفائه ، وبالتالي ضرورة التنسيق مع سوريا التي تواجه التهديدات نفسها ، وذلك لمساعدة الكرد السوريين على تفادي اوهام الانفصال التي راودت بعض الكرد العراقيين .
خامستها: ان إعتماد المبادىء والأهداف والمقاربات السالفة الذكر يستوجب ، بادىء الامر ، مباشرة حوار وطني عراقي بين القوى السياسية جميعاً بغية التوصل الى توافق متين على طرائق وضعها موضع التنفيذ، واقامة تحالفات وطنية جامعة لخوض إنتخاباتٍ عامة ينبثق منها تكتل او تكتلات وطنية ديمقراطية تكون اهلاً لحكم البلاد وادارة مواردها الطبيعية وإنمائها.
التحديات كبيرة والفرص متاحة ، بقي ان يبادر اصحاب الارادات الوطنية الى العمل بلا إبطاء.