نشرت في جريدة "اللبناء" و"القدس العربي"
تاريخ 11/12/2017
مرحلة جديدة مغايرة في الصراع
تستوجب رداً مباشراً باستراتيجية متكاملة وفاعلة
د. عصام نعمان
يتبارى اليوم كتّاب واعلاميون ودعاة وسياسيون في توصيف فعلة ترامب النكراء . يصقونها بأنها "صفقة القرن" او "جريمة القرن" او"جريمة العصر". ربما تليق بها هذه الأوصاف جميعاً ، لكن التوصيف الأدق انها " صفعة العصر" لكل العرب والمسلمين المراهنين والمخدوعين بجدوى التفاوض مع "اسرائيل" برعاية اميركا او بوساطتها. لماذا ؟
لأن واقعات ومعطيات وموازين قوى مغايرة تكوّنت وتطوّرت وفعلت فعلها مذّ صالحت حكومتا مصر والاردن دولة "اسرائيل" التي تنكّرت حكوماتها المتعاقبة لأتفاق اوسلو المشؤوم (1993) المعقود مع منظمة التحرير الفلسطينية ، واستباحت بالإستيطان ربوع الضفة الغربية واحياء القدس الشرقية ، وشرّدت المزيد من سكانها العرب ، وقمعت واعتقلت وصفّت الآلاف من المقاومين ، وعطّلت بشتى الاعذار والتدابير مفاوضات مراثونية عبثية تطاولت بوساطة اميركية مريبة ومنحازة ، وحاصرت قطاع غزة وحاولت سحقه وإخراجه من معادلة الصراع بثلاث حروب مدمّرة. كل ذلك جرى بغية إضعاف الجسم الفلسطيني الى درجة تضطر معها قياداته الى الرضوخ والتسليم بترتيبات مبرمجة لتصفية القضية برمتها.
ترامب انهى بقراره الاخير ، من حيث يدري او لا يدري ، مرحلةً كارثية في تاريخ الصراع العربي–الصهيواميركي، فهل يدشن احرار العرب والفلسطينيين وملتزمو نهج المقاومة في صفوفهم مرحلة جديدة مغايرة ، يمسكون من بدايتها بزمام المبادرة ، ويطلقون مواجهةً طويلة النَفَس ، وطنية وسياسية واجتماعية وثقافية ، بأساليب وأسلحة عصرية متطورة على جميع المستويات ، ويصمدون ويناضلون ويثابرون حتى بلوغ الأهداف المرتجاة ؟
لعل اول ما يقتضي فعله هو الإقتناع بلاجدوى وبالتالي بضرورة الإنهاء الفوري للتنسيق الأمني مع "اسرائيل" والإمتناع الكلّي عن التواصل معها او مفاوضتها ، بوساطة اميركا او من دونها ، طالما ان موازين القوى الإقليمية والدولية السائدة على حالها . اما في حال تراجعت اميركا او جمّدت ، في الاقل، قرار ترامب الإعتراف بالقدس عاصمةً لـِ "اسرائيل" ونقل سفارتها اليها ، فيصبح بإمكان المراجع الرسمية الفلسطينية عندئذٍ معاودة التواصل مع "اسرائيل" وفق شروط صارمة للقبول بمفاوضتها ليس اقلها إقرارها وإلتزامها علناً ورسمياً بموجب قرار في مجلس الأمن الدولي بأن القدس عاصمة لدولة فلسطين ، وبوقف الإستيطان كلياً تحت رقابة أممية طيلة فترة استئناف المفاوضات ، وتأكيد وتوثيق الإلتزام مجدداً بقررات الامم المتحدة جميعاً بشأن حقوق الفلسطينيين وفي مقدمها حق العودة.
في موازاة الإصرار على هذا الموقف الشعبي والرسمي الصارم والموثق بالضمانات سالفة الذكر ، يقتضي النهوض بلا إبطاء بمهمتين استراتيجيتين : الاولى للمدى القريب تتولاها القوى الوطنية الحيّة ، والاخرى للمدى الأبعد تقع على عاتق الحكومات والهيئات الرسمية والشعبية والقادة الوطنيين الواعين بالتحديات والمخاطر المحدقة بالأمة جمعاء والجادين في إلتزام مواجهتها على كل الصُعُد السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.
المهمة الاولى : قيام القوى الوطنية الحيّة بثلاث مبادرات وتحركات اساسية:
(أ) تأجيج الإنتفاضات الشعبية بالإحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني ، اذا اقتضى الامر ، في اطار اوسع حملة شعبية ضد اميركا ومصالحها في عالم العرب والمسلمين .
(ب) المباشرة بلا إبطاء في إعادة بناء وتثوير منظمة التحرير الفلسطينية بالتزامن مع تطوير حركات المقاومة المدنية والميدانية وتوحيدها في جبهة عريضة فاعلة على مستوى الوطن العربي بدءاً ببلاد الشام وبلاد الرافدين وصولاً الى سائر الاقطار والأمصار ، وتزويدها برنامجاً كفاحياً متعدد المراحل والمهام .
(جـ) اعتبار اي خطوة تُتخذ للتطبيع مع "اسرائيل" قبل تسليمها بقيــام دولــــة
فلسطين المستقلة وتثبيت حق العودة ومباشرة تنفيذه خيانةً عظمى بحق فلسطين بما هي القضية المركزية للعرب والمسلمين .
المهمة الثانية : الضغط على الدول والحكومات والسلطات والهيئات الرسمية والقادة السياسيين في بلاد العرب والمسلمين لحملهم على القيام بثلاث مبادرات اساسية:
(أ) قطع العلاقات الديبلوماسية والسياسية والإقتصادية مع "اسرائيل" والوكالات والمؤسسات المتعاملة معها ولاسيما المصالح الأميركية.
(ب) عقد اجتماع قمة لجامعة الدول العربية وآخر لمنظمة التعاون الإسلامي يُعلن فيهما قرار لا رجوع فيه بإعتبار القدس عاصمة ابدية لدولة فلسطين.
(جـ) إقرار ميزانية سنوية لمنظمة التحرير الفلسطينية في اطار كلٍ من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وذلك بصيغة مساهمات مالية سنوية من الدول الأعضاء في كلٍّ منهما.
الى ذلك كله ، فإن القادة والمناضلين الوطنيين الواعين واهل الرأي الملتزمين والجادين في بلاد العرب مدعوون الى إجتراح استراتيجية لبناء دول وطنية مدنية ديمقراطية في اقطارهم تكون اساساً لعمل دؤوب ومتواصل في إطار خطة علمية متعددة الجوانب لتحقيق تكاملها تدريجياً في اتحادٍ كونفدرالي او دولة فدرالية (اتحادية) في العمق الجغرافي والإستراتيجي المحيط بالكيان الصهيوني ، اي بدءاً ببلاد الشام وبلاد الرافدين وصولاً الى تكاملها مع بلاد وادي النيل.
إن التحديات والمخاطر الكبيرة تتطلب عقولاً وارادات وتنظيمات ومشروعات نهضوية كبيرة ، وقد آن الآوان .