نشرت بجريدة "الخليج" والبناء"
تاريخ 11/12/2017
كيف يردّ العرب والمسلمون على صفعة ترامب ؟
د. عصام نعمان
اميركا اعترفت بـ "اسرائيل" ، دولةً وشعباً ، لحظةَ إعلان قيامها العام 1948. هي لم تعترف بالفلسطينيين شعباً له حق الوجود في دولة. صحيح انها ابقت الى حين سفارتها في تل ابيب ، لكنها تمسكت بعدم اعترافها بدولةٍ للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة . ادعت انها ارجأت هذا الاعتراف الى حين يتفق الفلسطينيون والاسرائيليون ، بالتفاوض ، على شروط قيامها. للتدليل على "حسن نيتها" حيال الفلسطينيين ، اعلنت انها ستضطلع بدور الوسيط في مفاوضاتٍ تجري بين الطرفين للوصول الى الإتفاق المنشود. ولتعزيز دورها كوسيط ،تباطأت اميركا في نقل سفارتها من تل ابيب الى القدس.
الفلسطينيون رفضوا ، بادىء الامر ، التفاوض مع "اسرائيل" كونه يؤشر الى اعترافٍ بحق كيانها في الوجود على حساب اصحاب الحق الاصليين . معظم حكام العرب جارى الفلسطينيين في موقفهم الى ان خسر الفلسطينيون والعرب في حرب 1967 معظم ما تبقّى لهم من فلسطين بموجب قرار تقسيمها العام 1947 بل خسروا، فوق ذلك ، مناطق واسعة في مصر وسوريا والاردن .
بعد النكبة الثانية المدوّية ، وافق العرب والفلسطينيون على مفاوضة "اسرائيل". المفاوضات دامت وتمدّدت سنين عديدة وتخللتها حرب 1973 التي استرجع العرب بنتيجتها بعضاً من اراضيهم لقاء التنازل عن كثير من حقوقهم كعدم الإعتراف بـ"اسرائيل" كياناً غاصباً لفلسطين ومشرِّداً لشعبها تحت كل كوكب.
الفلسطينيون حزموا امرهم بعد طول معاناة وقرروا القبض على زمام قضيتهم بأنفسهم ، فباشروا مقاومة شعبية لـِ "اسرائيل" من مناطق ومخيمات تحتضنها دول عربية مجاورة لكيان العدو ، وانتزعوا من الحكام العرب قراراً بإقامة كيان لهم بإسم منظمة التحرير الفلسطينية.
لكن ، لا فصائل المقاومة استطاعت تحقيق مكاسب حقيقية على الارض ، ولا منظمة التحرير استطاعت تحقيق نجاحات ملموسة في السياسة ، ولا دول العرب استطاعت حمل اميركا وغيرها من شركاء "اسرائيل" وحلفائها على ممارسة ضغوط وازنة لحملها على تنفيذ قرارات الامم المتحدة المتعلّقة بحقوق شعب فلسطين . هكذا اصاب الوَهَن منظمة التحرير ، فكان ان صالحت ، كحكومتي مصر والاردن ، "اسرائيل" بعقد "اتفاق اوسلو" معها العام 1993. غير ان "اسرائيل" امتنعت ، كعادتها ، عن تنفيذ ما تعقده من اتفاقات ، فإستمر الإحتلال بكل شروره واقتصرت سلطة "السلطة الوطنية الفلسطينية" على التنسيق مع الجيش الإسرائيلي في حراسة امن الإحتلال.
رافقت الإحتلال مفاوضاتٌ مراثونية لا تنتهي بين مسؤولي السلطة الفلسطينية وسلطة الإحتلال دونما نتائج تذكر . بالعكس ، استغلّت حكومات "اسرائيل" المتعاقبة حال الضعف والإنقسام الفلسطينية والعربية لتمديد رقعة الإستيطان في كل ارجاء الضفة الغربية. وحاول الرؤساء الاميركيون المتعاقبون ، برفق ، إقناع "اسرائيل" بوقف اعمال الإستيطان اثناء جولات المفاوضات المتطاولة ، لكن دونما جدوى. ها هو دونالد ترامب يعلن اخيراً قراره بنقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس معترفاً بالمدينة المقدسة عاصمةً لـِ "اسرائيل" ، كما لم يتورع عن وصف فعلته هذه بأنها تدبير "لدفع عملية السلام الى الامام" !
احتجّ فلسطينيون وعرب ومسلمون كثيرون على "هدية" ترامب الموازية ، من حيث انعكاساتها وتداعيتها ، لوعد بلفور لليهود الصهاينة قبل مئة سنة. ولئن اعتبر بعض المسؤولين الفلسطينيين والعرب بأن الإعتراف الاميركي بالقدس عاصمة لـِ "اسرائيل" يقضي على "حل الدولتين" ، فإن بعضهم الآخر ما زال يؤمّل في إمكان الإستفادة من رعاية اميركا لمفاوضات لاحقة مع "اسرائيل" طالما ان عملية نقل السفارة فعلياً تتطلب بعض الوقت ! هؤلاء ما زالوا يصدّقون بأن اميركا تعترف بوجود الفلسطينيين وبحقهم بأن تكون لهم دولة . هؤلاء ما زالوا يعتقدون ، بعد مرور نحو ربع قرن على بدء مفاوضات متطاولة وفارغة مع "اسرائيل" ، بأن للتفاوض مع الصهاينة جدوى.
اليوم يتبارى كتّاب واعلاميون وسياسيون في توصيف فعلة ترامب النكراء بأنها "صفقة القرن" او "جريمة القرن" او"جريمة العصر". ربما تكون لها كل هذه النعوت لكنها تشكّل ، بالدرجة الاولى ، "صفعة العصر" لكل العرب والمسلمين المخدوعين بجدوى التفاوض مع "اسرائيل" برعاية اميركا او من دون رعايتها.
آن اوان الإقتناع ، بعد صفعة ترامب المدوّية ، بأن لا جدوى من مفاوضة "اسرائيل" ولا جدوى من مفاوضة اميركا بشأن "اسرائيل". ثمة مثل شائع بين عامة الناس في بلاد المشرق: "مَن جرّب المجرّب كان عقله مخرّب". الى متى يجرّب بعض الفلسطينيين والعرب المجرّب الاسرائيلي والاميركي ؟
يبقى سؤال : كيف يردّ الفلسطينيون والعرب والمسلمون على صفعة ترامب وتداعياتها ؟
لعل اول ما يقتضي فعله هو الإقتناع بلاجدوى وبالتالي بضرورة الإمتناع الكلّي عن التواصل مع اسرائيل او مفاوضتها ، برعاية اميركا او من دونها ، طالما موازين القوى الإقليمية والدولية السائدة على حالها . اما في حال تراجعت اميركا او جمّدت على الاقل قرار ترامب الإعتراف بالقدس عاصمةً لـِ "اسرائيل" ونقل السفارة اليها ، فيكون بإمكان الجهات الرسمية الفلسطينية معاودة التواصل معها في إطار شروط صارمة للقبول بمفاوضتها قبل مفاوضة "اسرائيل" ليس اقلها الإقرار بأن القدس عاصمة لدولة فلسطين ، وبوقف الإستيطان كلياً طيلة فترة استئناف المفاوضات .
في موازاة هذا الموقف الشعبي والرسمي الصارم ، يقتضي النهوض بلا إبطاء بمهمتين : الاولى للمدى القريب ملقاة على عاتق القوى الوطنية الحيّة ، والاخرى للمدى الأبعد تقع على عاتق الحكومات والهيئات الرسمية والقادة الرسميين الوطنيين الواعين بالتحديات والمخاطر المحدقة بالأمة جمعاء والجادين في إلتزام مواجهتها على كل الصُعُد السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.
المهمة الاولى : إن القوى الوطنية الحيّة مدعوةٌ الى القيام بثلاث مبادرات اساسية:
(أ) تأجيج الإنتفاضات الشعبية بالإحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني ، اذا اقتضى الامر ، في اطار اوسع حملة شعبية ضد اميركا ومصالحها في عالم العرب والمسلمين .
(ب) المباشرة بلا إبطاء في تطوير حركات المقاومة المدنية والميدانية وتوحيدها في جبهة واحدة على مستوى الوطن العربي بدءاً ببلاد الشام وبلاد الرافدين وصولاً الى جميع الاقطار والأمصار.
(جـ) اعتبار اي خطوة تتخذ للتطبيع مع "اسرائيل" قبل تسليمها بقيــام دولــــة
فلسطين المستقلة خيانة عظمى بحق فلسطين بما هي القضية المركزية للعرب والمسلمين .
المهمة الثانية : الضغط على الدول والحكومات والسلطات والهيئات الرسمية والقادة السياسيين في بلاد العرب والمسلمين لحملهم على القيام بثلاث مبادرات اساسية:
(أ) قطع العلاقات الديبلوماسية والسياسية والإقتصادية مع "اسرائيل" والوكالات والمؤسسات المتعاملة معها ولاسيما المصالح الأميركية.
(ب) عقد اجتماع لجامعة الدول العربية وآخر لمنظمة التعاون الإسلامي يُعلن فيهما قرار لا رجوع فيه بإعتبار القدس عاصمة ابدية لدولة فلسطين.
(جـ) إقرار ميزانية سنوية لمنظمة التحرير الفلسطينية في اطار كلٍ من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وذلك بصيغة مساهمات مالية سنوية من الدول الأعضاء في كلٍّ منهما.
الى ذلك كله ، فإن القادة والمسؤولين الوطنيين الواعين واهل الرأي المناضلين والملتزمين والجادين في بلاد العرب مدعوون الى إجتراح استراتيجية لبناء دول وطنية مدنية ديمقراطية في اقطارهم تكون اساساً لعمل دؤوب ومتواصل في إطار خطة علمية متعددة الجوانب لتحقيق تكاملها تدريجياً في اتحادٍ كونفدرالي او دولة فدرالية (اتحادية) في المدى الجغرافي والإستراتيجي المحيط بالكيان الصهيوني ، اي في بلاد الشام وبلاد الرافدين وصولاً الى تكاملها مع بلاد وادي النيل.
إن التحديات والمخاطر الكبيرة تتطلب عقولاً وارادات ومشروعات نهضوية كبيرة ، وقد آن الآوان .