نشرت بجريدة "البناء" والقدس العربي"
تاريخ 27/11/2017
التسوية المقبولة يشرّعها لبنانيون منتخبون ...وحدهم
د. عصام نعمان
جهات متعددة ، فرنسية ومصرية وايرانية ولبنانية ، وفرت للرئيس سعد الحريري مخرجاً من ازمة استقالته الملغومة في الرياض . عنوان المخرج التريّث في تقديم الإستقالة والإحتفاظ بها لمزيد من التشاور في اسبابها وخلفياتها السياسية . السبيل الى ذلك حوارٌ مسؤول يجدّد التمسك بإتفاق الطائف ومنطلقات الوفاق الوطني ويعالج المسائل الخلافية وانعكاساتها على علاقات لبنان مع الأشقاء العرب.
بهذه الكلمات لخّص الحريري بتصريحه في القصر الجمهوري أبعاد المخرج المذكور غداةَ عودته الى بيروت بعد غيابه ، بل احتجازه ، في الرياض نحو اسبوعين . من كلمات التصريح ومما رشح من مداولات الرؤساء والنواب والسياسيين المعنيين يمكن استخلاص المعاني والمواقف الآتية :
- لم يتراجع الحريري عن اسباب استقالته الامر الذي أبقاها معلّقة ، فأراح بذلك المسؤولين السعوديين الذين كانوا وراءها.
- التريّث في تقديم الإستقالة نفّس الإحتقان والتوتر اللذين نتجا عن اعلانها خارج لبنان، وحصّن الإستقرار الذي يحتاجه لبنان واللبنانيون في هذه الظروف الاقليمية العصيبة.
- التريّث في تقديم الإستقالة من دون ربطه بمهلة زمنية يتيح للحريري إعادة ترتيب اولوياته واوراقه واصطفاف حلفائه لمجابهة استحقاقات المرحلة القادمة ، كما يتيح للمسؤولين جميعاً الوقت الكافي لمباشرة مشاورات واسعة ومعمّقة.
- لأن حكومة الحريري ما زالت ، نتيجةَ التريّث، قائمة فإن بإمكانها ان تكون فاعلة ، خصوصاً وان استحقاق الانتخابات النيابية مطلعَ شهر ايار/مايو القادم يتطلّب الكثير من الإجراءات السياسية والادارية واللوجستية اللازمة.
- ليس في المناخ السياسي العام ما يشير الى ان الرؤساء الثلاثة ، ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري ، توافقوا على تتويج المشاورات الموعودة بالدعوة الى طاولة حوار وطني لإقرار تسوية سياسية جديدة تحلّ محل اتفاق الطائف الذي ما انفك معظم الاطراف والجماعات يعلن ، صادقاً او مراوغاً ، تمسكه به ما يعني ان بإمكان الحريري وحكومته الإستمرار في ممارسة السلطة للإشراف على الإنتخابات القادمة.
لعل هذا الإستنتاج اهم دواعي الحريري للتريّث في تقديم استقالته ، وبالتالي لتمديد مهلة التريّث بغية تمكين حكومته من الاشراف على إجراء الإنتخابات في موعدها او في اي موعد آخر يقرّب تاريخ اجرائها. الى ذلك ، يشير احتمال تقريب موعد الإنتخابات الى معنى بالغ الاهمية هو لستبعاد طبخ تسوية سياسية مسلوقة بين اطراف الشبكة السياسية الحاكمة بمعزل عن سائر اطراف المشهد السياسي وذلك تفادياً لزعزعة الاستقرار.
الحقيقة ان امكانية توصل المسؤولين ، داخل السلطة وخارجها ، الى توافق على تسوية مقبولة صعب اصلاً إن لم يكن مستحيلاً . فالحريري ومن يذهب مذهبه في تفسير سياسة "النأي بالنفس" كما يريدها اصدقاؤه السعوديون لن يتمكّنوا من إقناع الفريق المؤيد للمقاومة وأطراف محورها من سوريين وفلسطينيين وعراقيين وايرانيين بقبول سحب مقاتلي حزب الله من سوريا ، او بتعطيل حصول الحزب على السلاح والعتاد من ايران او غيرها عبر العراق وسوريا ، او التسليم بوقف دعم الحزب للمقاومة الفلسطينية والمقاومة اليمنية المناهضة للسعودية ، او بوضع قيود سياسية واعلامية على حزب الله او غيره من القوى الوطنية المناهضة لسياسة الولايات المتحدة و"اسرائيل" بدعوى "عدم التدخل في شؤون الدول العربية".
الى ذلك ، لا يجوز اساساً السماح لبضعة مسؤولين وسياسيين انتهت صلاحية بعضهم ويفتقد بعضهم الآخر اي صفةٍ تمثيلية وحيثية وطنية بأن ينوبوا عن الشعب بكل تياراته وهيئاته ونقاباته وقواه الحية في صوغ تسوية مسلوقة او منقوصة او فاجرة في اغراضها المصلحية ، وفرضها مساراً لتوجيه البلاد وجهةً لا تؤمّن حقوق الاكثرية الساحقة من اللبنانيين ولا تحمي مصالحهم الحيوية.
اللبنانيون وحدهم هم اصحاب الحق والسلطة والشرعية الوطنية والتمثيلية ليصنعوا التسويات التاريخية والاتفاقات الميثاقية التي تؤّمن استقراراً مديداً وخروجاً آمناً متدرجاً من الأزمة المزمنة التي يعانيها لبنان منذ استقلاله السياسي المنقوص العام 1943 . كيف ؟
بإنتخابات حرة ونزيهة . صحيح ان قانون الإنتخاب الذي جرى إقراره قبل ستة اشهر يشوبه الكثير من العلل والثغرات ، إلاّ انه يتميّز بتدبير إصلاحي جذري هو تجاوزه نظام الإنتخاب الاكثري اللاديمقراطي الساري مند نحو 95 عاماً ، واعتماده نظام النسبية والصوت التفضيلي ، فاتحاً بذلك الباب امام الشباب والمرأة وقياديي القوى التقدمية والتحررية لإنتخابهم أعضاء في مجلس النواب.
النواب الفائزون في انتخابات حرة ونزيهة في المستقبل المنظور هم وحدهم الممثلون الشرعيون المخوّلون إجتراح تسوية تاريخية مقبولة تكفل الإنتقال بلبنان من النظام الطوائفي المركانتيلي الفاسد الى رحاب الدولة المدنية الديمقراطية المبنيّة على اسس الحرية والمواطنة وحكم القانون والعدالة والتنمية.