نشرت بجريدة "البناء" و"الخليج"
تاريخ 25/11/2017
"الارض منزلنا الوحيد"
لماذا يتواصل هدمها بالإحتباس الحراري وتلويث البيئة ؟
د. عصام نعمان
قد يبدو غريباً ان يهتم كاتب او إعلامي او حقوقي او سياسي بالارض والطبيعة والبيئة في وقتٍ تعصف ببلاد العرب حروب وكوارث ومآسٍ وأزمات أدعى الى القلق والإهتمام والمتابعة والمعالجة. لكن الغرابة تتبدّد عندما يقع المرء على انماط من الوقائع والحقائق والمعلومات والاحصائيات المقلقة تكشف المخاطر والتهديدات والتحديات التي تواجه كوكبنا الارضي نتيجةَ إمعان الإنسان في ظلم توأمه الأبدي : الطبيعة .
خمسة عشر الف عالم وباحث منتمون الى 184 دولة وبلد والى مختلف الإختصاصات العلمية اطلقوا قبل اسبوع في مناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الثالث والعشرين للمناخ في مدينة بون الالمانية نداء ، بل تحذيراً ، من اجل انقاذ البيئة والحياة على الارض. ذكّروا الإنسانية جمعاء بأن "الارض ، بكل الحيوات التي تنطوي عليها ، تبقى منزلنا الوحيد". فهل يعقل ان يمعن الإنسان في هدم منزله الوحيد ؟
نعم ، إنه يفعل ذلك بلا هوادة رغم كل التحذيرات والمناشدات . فمنذ "نداء ريو" في العام 1992 لمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الاول للمناخ في البرازيل الذي وقّعه آنذاك 1700 عالم وباحث بينهم نحو مئة حائز جائزة نوبل في اختصاصه ، تضاعف معدل الإتجاه الإنحداري للخط البياني لمؤشراتٍ كان تناولها ذلك النداء اذ ارتفعت حرارة الارض مع ارتفاع ثنائي اوكسيد الكربون (CO2) ، وانحسرت رقعة الغابات ، وانخفضت ولادات الحيوانات الثديية والطيور والاسماك بنسبة الثلث ، و تدنّى حجم المياه الحلوة الى النصف. ذلك كله دفع الامم المتحدة الى اعتبار تغيّر المناخ احد التحديات الرئيسة في عصرنا لأن الاحتباس الحراري يبدّل انماط الطقس ، ويهدد الإنتاج الغذائي، ويرفع منسوب مياه البحار والمحيطات ، ويضاعف خطر الفيضانات.
ما كان حال الارض ، منزلنا الوحيد ، لتتدهور على هذا النحو لولا فشل الإنسانية ، اي الإنسان افراداً وجماعات وحكومات، في إلتزام المتطلبات والشروط اللازمة لمواجهة التحديات البيئية المتفاقمة.
مسؤولية الفشل ، في هذا المجال ، تقع على عاتق الدول والحكومات بالدرجة الاولى . ذلك انها تمتلك سلطة التحليل والتحريم والتنظيم والتوجيه والقمع ، وقد قصّرت في الوفاء بموجباتها جميعاً. ولعل اكثر الظاهرات مدعاة للقلق والاسف ان الولايات المتحدة ، وهي كبرى الدول الصناعية في العالم ، انسحبت في شهر حزيران/يونيو الماضي من اتفاقية باريس المناخية للعام 2015 بقرار من الرئيس دونالد ترامب.
يلي الدول والحكومات في تحمّل مسؤولية الفشل في إلتزام متطلبات وشروط حماية البيئة ووقف الإعتداءات المدمِّرة للطبيعة، فريقٌ من رجال الاعمال والصناعيين والتجار الذين يتوخون الربح بأي ثمن ولو على حساب صحة الإنسان. وهل بقيت خافية عن الرأي العام المحلي والعالمي فضائح شركات التبغ وصناعة الأغذية والمبيدات الزراعية في دفع الرشى (الرشاوى) لأهل السلطة ، وتزوير الدراسات والتقارير، وتعميم الإعلانات والدعايات من اجل التغطية على مخاطر استعمال منتوجاتهم وتوسيع تسويقها وترويجها؟
هذه المخاطر والكوارث والتحديات التي تواجه الإنسانية تستوجب مواجهةً جدّية ، سريعة وفاعلة ، على جميع المستويات وفي كل اصقاع كوكبنا الارضي. ولعل اول التدابير الملّحة الواجب اتخاذها في هذا المجال هو التوعية بمفاعيلها ونتائجها الكارثية وحتمية انعكاسها على جميع الدول والمجتمعات في عالمنا المعاصر. فالارض والطبيعة والبيئة متّحدات كونية مترابطة ومتكاملة بعناصرها ومكوّناتها كافةً على مستوى كوكبنا برمته ، ولا سبيل لأي دولة او اقليم او منطقة ان تبقى بمنأى عن مفاعيلها وتأثيراتها .
ثاني التدابير المتوجب إتخاذها وتنفيذها إقامةُ وكالات او مؤسسات اممية عابرة للدول والمجتمعات ، بمعنى ان تكون نُظمها وقوانينها وسلطاتها واجبة الاحترام والتنفيذ في كل مكان او فضاء في كوكبنا وعلى نحوٍ يتجاوز دونما عوائق مفهوم سيادة الدولة المعتمد في احكام القانون الدولي العام .
ثالث التدابير المتوجبة وضعُ ميثاقٍ توأم للإعلان العالمي لحقوق الإنسان جوهرُه حماية "حقوق" الارض والطبيعة والبيئة ومتطلبات حمايتها ، وإقرار نظام عقوبات لمحاسبة ومعاقبة المخالفين والمرتكبين امام محاكم مختصة ، وطنية واممية . ولا غلو في أن تكون عقوبة الجرائم المدمِّرة للطبيعة والبيئة مساوية في شدتها لعقوبة جرائم الحرب الوحشية والإبادة العنصرية والجماعية .
اخيراً وليس آخراً ، الدولُ المنتجة للنفط والغاز مدعوةٌ قبل غيرها واكثر من غيرها الى التحوّط لنتائج الإعتداءات المدمِّرة للطبيعة والبيئة وردود الفعل المتعاظمة عليها ، ولا سيما لجهة سنّ القوانين وإقرار الأنظمة والآليات الهادفة الى خفض الإحتباس الحراري واهمها الحدّ من استهلاك الوقود الاحفوري (النفط والغاز) وتعزيز الإعتماد على الطاقات الخضراء والتكنولوجيا الخضراء.
لتفادي خسارة عائدات النفط والغاز كلها او جلّها ، وهي عماد الدخل الوطني في الدول المنتجة لهما نتيجة تقليص وربما تحريم استعمال الوقود الاحفوري ، يقتضي إطلاق مبادرة جدية بلا إبطاء للتثمير والاستثمار والتوظيف في صناعات توليد الطاقة من المصادر الخضراء المتجددة كأشعة الشمس ، والرياح ، ومساقط المياه المتدفقة ، وبعض النباتات والمزروعات.