نشرت بجريد"القدس العربي"و"البناء"
تاريخ 20/11/2017
أيهما أجدى:
عودة الحريري الى لبنان ام عودته عن إستقالته الملغومة ؟
د. عصام نعمان
قيادات وهيئات وجماعات وحكومات في بلاد العرب ودول العالم طالبت السعودية بوقف احتجاز رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري وإعادته الى لبنان . الحريري ردّ في مقابلة تلفزيونية إنه عائد الى بيروت خلال بضعة ايام. اكّد الامر نفسه للبطريريك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أثناء زيارته الرياض ، لكنه لم يَعُد. ذلك حمل الرئيس ميشال عون على التأكيد بأن الحريري محتجز وانه لن يبّت استقالته إلاّ بعد عودته ، وعائلته المحتجزة مثله ، الى البلاد .
بعضُ الذين طالبوا بعودة الحريري فعلوا ذلك لضرورة احترام الدستور والعرف وذلك بتقديم استقالةٍ خطيّة في لبنان . بعضهم الآخر قال ، مباشرةً او مداورةً ، ان الحريري أُكره في الرياض على تقديم إستقالةٍ ملغومة ، وان عودته الى البلاد توفّر له الحرية لبيان اسبابها الحقيقية او ، ربما ، للعودة عنها.
إزاء تعاظم مطالبات الإفراج عن الحريري وإحتمال إثارة مسألة إحتجازه غير المشروع في اجتماع مجلس وزراء الخارجية في جامعة الدول العربية ، استدركت الرياض إنعكاسات فعلتها المستهجنة بإهداء الإفراج عن رهينتها السياسية الى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي دعا الحريري وعائلته الى ضيافته في باريس حيث هم الآن.
في موازاة قضية الإفراج عن الحريري وإحتمال عودته عاجلاً او آجلاً الى البلاد ، نشأت قضية اخرى هي عودته عن الإستقالة او تمسّكه بها، وبالتالي عودته الى رئاسة الحكومة او عدم عودته اليها .
الملاحظ انه مذّ أعلن الحريري في مقابلته التلفزيونية إعتزامه العودة خلال بضعة ايام، واركان تياره وكتلته النيابية يؤكدون مراراً وتكراراً ان عودته هي اولوية مطلقة ، وانه هو لا غيره مرشحهم الوحيد لإعادة تأليف الحكومة اذا ما جرى قبول استقالته .
لا شك في ان عودة الحريري الى البلاد قضية بالغة الأهمية وأن من حق المطالبين بعودته ، إن لم يكن من واجبهم ، اعتبارها اولوية اولى. لكن الحريري أورد في بيان إستقالته كما في مقابلته التلفزيونية اسباباً لها ، وبدا متمسكاً بها ، بدليل قوله في المقابلة إن عودته عن الإستقالة مرهونة بإحترام وإلتزام سياسة "النأي بالنفس" . مشاهدو المقابلة التلفزيونية فسروا النأي بالنفس ، بحسب مفهوم الحريري ، بأنه يعني مقاطعة سوريا والابتعاد عن حربها وعن اطراف محور المقاومة وحلفائه . فوق ذلك ، تبنّى الحريري في بيان استقالته كما في مقابلته التلفزيونية مزاعم الرياض بأن حزب الله "انتهك" سياسة النأي بالنفس بمشاركته في الحرب بسوريا الى جانب حكومتها وفي اليمن ضد حكومة عبد ربه منصور هادي التي تحتضنها السعودية ، وانه درّب الحوثيين على اطلاق صاروخ باليستي على مطار الملك فهد في الرياض .
كل هذه الواقعات والإتهامات تُضفي على قضية عودة الحريري عن استقالته اهمية تضاهي اهمية المطالبة بعودته الى البلاد إن لم تكن تفوقها. لماذا ؟
لأن الحريري أورد أسباباً للإستقالة طلبتها السعودية وحرّضت على ضرورة فرض متطلباتها ، ودعت بموجبها الى إخراج وزراء حزب الله من الحكومة كضمانة لإلتزامها واحترامها . لذا يستقيم التساؤل عن الفائدة التي ترتجيها الرياض من عودة الحريري الى البلاد إن لم تقترن استقالته بتدبيرٍ أجدى لها من الإستقالة وهو التمسك بسياسة النأي بالنفس عن سوريا وايران وقوى المقاومة وحلفائها بغية إخراج حزب الله من الحكومة والإنخراط في نهج التصدي لإيران وحلفائها على مستوى المنطقة برمتها.
الى ذلك ، جاءت زيارة البطريرك الراعي الى السعودية وإجتماعه الى الحريري لتؤكد امراً وثيق الصلة بمسألة عودته عن الإستقالة كما بإحتمال إعادة تكليفه تأليف حكومة جديدة . فقد صرّح البطريرك الراعي انه يتفهم اسباب استقالة الحريري ، فيما بعض وسائل الإعلام قال إنه يؤيدها ايضاً. هذه الإشارة الى أسباب الإستقالة تؤكد ان الرجلين تدارساها وان الحريري متمسك بها وقد يشترط اعتمادها اساساً لعودته عن الإستقالة. كما تعني ، ربما، ان البطريرك الماروني سيقف الى جانبه في هذا المجال الامر الذي يتعارض مع موقف الرئيس عون ، حليف حزب الله ، الذي يصرّ على عودة الحريري ، وعائلته المحتجزة ، اولاً ومن ثم يُصار الى بحث اسباب الإستقالة الملغومة .
في ضوء هذه الملابسات والتطورات ، تنهض اسئلة مفتاحية : كم ستطول إقامة الحريري في ضيافة الرئيس الفرنسي ؟ وماذا لو تمسك بأسباب إستقالته ودعواه بأنه جرى "انتهاك" سياسة النأي بالنفس ؟ ماذا لو عارضه سائر الأطراف ، وطالت المماحكات بين اطياف المشهد السياسي اللبناني اشهراً لغاية اقتراب موعد إجراء الإنتخابات في 6 ايار/مايو المقبل؟ هل يغامر الرئيس عون وسائر اركان الدولة وزعماء التكتلات النيابية بإجراء الانتخابات في ظل حكومة مستقيلة ليس لها من صلاحيات سوى تصريف الاعمال ؟ وهل يجوز اصلاً اجراء الإنتخابات في ظل حكومة تتولى تصريف الاعمال بأضيق الحدود ؟ ام يستبق الرئيس عون مخاطر البلبلة والفوضى بإعتماد خيار تأليف حكومة تكنوقراط للإشراف على إجراء الإنتخابات ؟ ام يؤدي تفاقم الازمة السياسية الى طرح مسألة تأجيل الإنتخابات وبالتالي التمديد لمجلس النواب مجدداً لمرة ثالثة ؟ والى متى تستطيب الشبكة الحاكمة مهزلة الإدمان على التمديد لمجلس النواب ؟ ألا يقتضي ان يستجيب الرئيس عون مطلب القوى الوطنية الحية بالعمل ، من خلال انتخابات حرة ، على اجتراح ميثاق وطني جديد جوهره تجاوز جمهورية "الطائف" الطوائفية المتهالكة بغية إقامة الدولة المدنية الديمقراطية على اسس الحرية والمواطنة وحكم القانون والعدالة والتنمية ؟
هذه الأسئلة جدّية ولا تعكس تعقيدات الازمة داخل لبنان فحسب بل تتصل ايضاً بإنعكاساتها في دول الاقليم وحتى في كبريات دول اوروبا واميركا . ولعلها تشير ايضاً الى ان الصراع بين مختلف اللاعبين في الساحات الإقليمية المتعددة محتدم وطويل ، وان جميعهم يعيشون مآزق مربكة في اوضاعهم الداخلية كما في علاقاتهم الخارجية.
هكذا تتجدد ازمة لبنان المزمنة وتتعقد.