نشرت بجريدة"القدس" العربي" و"البناء"
تاريخ 9/10/2017
ايّ عاصفة ستهب بعد هدؤ ترامب الخادع ؟
د. عصام نعمان
المباغتة هي هواية دونالد ترامب المحببة. باغت الإعلاميين قبيل اجتماعه الى كبار قادة اميركا العسكريين بقوله : "انه الهدؤ الذي يسبق العاصفة" !
سُئل : "ايّ عاصفة تعني ايها السيد الرئيس" ؟ اجاب : "انتظروا ، وسوف ترون" !
اهل السياسة والاقتصاد في اميركا واوروبا ينتظرون ، بقلق ، منذ اسابيع واشهر موقف ترامب من الإتفاق النووي بين ايران ودول مجلس الامن الخمس الكبرى زائداً المانيا. كل هؤلاء ومعهم دول العالم جميعاً ، بإستثناء الولايات المتحدة و"اسرائيل" ، راضون عن الإتفاق . ترامب ينوي، على ما يبدو ، إخطار مجلسيّ الكونغرس عدم رغبته بالمصادقة عليه ، إلاّ انه لن ينسحب منه . بذلك تصبح الكرة في ملعب الكونغرس ، فهل يكتفي بتشديد العقوبات على ايران ام يتجه الى وجوب الإنسحاب منه ؟
لا مصلحة لاميركا واوروبا في الخروج من الإتفاق النووي. شركات اوروبية عدّة عقدت اتفاقات صناعية وتجارية ضخمة مع ايران ما حمل قادة الاتحاد الاوروبي على مطالبة ترامب بعدم تقويض الاتفاق. نائب الرئيس الاميركي السابق جو بايدن دعا ترامب الى المحافظة عليه لأن تقويضه يؤدي الى عزلة اميركا. صحيفة "واشنطن بوست" النافذة حذرت ترامب من ان تقويضه يؤدي الى صدامٍ بينه وبين حلفائه الاوروبيين ورجّحت ألاّ يطلب الرئيس الاميركي من الكونغرس تشديد العقوبات على ايران.
غير ان صحيفة "بوليتيكو" الاميركية كشفت ما بدا انه السر المكنون. قالت إن الدافع الاساس لموقف ترامب هو إطلاق حملة دعائية واسعة ضد "حزب الله" اللبناني، من حيث هو حليف قوي لإيران ، بغية "تقويض شرعيته السياسية في لبنان".
هل هذا هو عنوان العاصفة التي توعّد ترامب بإطلاقها بعد الهدؤ الخادع الذي ساد مواقفه المتقلبة مؤخراً ؟
لعله جزء من العنوان وليس كله . ذلك ان لترامب ، في سياق تركيزه على ايران كخصم رئيس لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة ، اغراضاً اخرى في هـذا المجـال تخدم الكيان الصهيوني. فقد سبق له ان اعلن انه بصـدد التحضير لـِ "صفقة القرن" ، ويعني بها ايجاد حل للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. في سياق مساعيه ، أوفد صهره جاريد كوشنير ومساعده الديبلوماسي جيسون غرينبلات الى "اسرائيل" والضفة الغربية لمباشرة اتصالات ومباحثات حول ترتيبات الصفقة الموعودة. لا نتائج ملموسة ، حتى الان ، لمساعي موفدي ترامب. إلاّ ان تصريحاً لافتاً صدر عن غرينبلات اذ دعا الفلسطينيين الى الإعتراف بـ "اسرائيل" كدولة يهودية.
الواقع ان منظمة التحرير كانت اعترفت بـ "اسرائيل" بمجرد توقيعها اتفاق اوسلو العام 1993 ، لكنها رفضت الإعتراف بها كدولة يهودية لاحقاً لسبب جوهري هو ان الإعتراف الملغوم الذي يسعى اليه بنيامين نتنياهو من شأنه تمكين "اسرائيل" من امرين شديدي الخطورة : عدم السماح لللاجئين الفلسطينيين في الشتات بالعودة الى ديارهم وبيوتهم بدعوى انهم يهددون هوية الدولة اليهودية ، وتوفير فرصة لسلطات "اسرائيل" العنصرية لتهجير فلسطينيي مناطق فلسطين المحتلة العام 1948 بدعوى انهم لا يعترفون بيهودية الدولة او يتصرفون على نحوٍ يسيء الى هويتها القومية.
الى ذلك ، تستعد حكومة نتنياهو كما ادارة ترامب الى مجابهة الوضع المستجد الناشىء عن "المصالحة الوطنية" بين حركتي "حماس" و"فتح" برعاية مصر وما قد ينشأ عنه من ضغوط على واشنطن وتل ابيب من اجل إحياء المفاوضات الهادفة الى تحقيق "حل الدولتين".
نتنياهو ليس في وارد "حل الدولتين". فقد تجاوز هذا "الخيار" منذ اشهر بإعلان موقف صارم : "لا دولة ثانية بين النهر والبحر". ماذا اذاً ؟ لم يُجب ولم يلتزم بشيء . بالعكس ، اعتمد الإستيطان المكثّف وسيلةً لتأمين مساندة انصار الإستيطان اليمينيين العنصريين له لتمديد بقائه في السلطة.
الفلسطينيون ادركوا سلبية نتنياهو وعنصريته الفاقعة وبالتالي استحالة "حل الدولتين" طالما هو في السلطة . ما العمل ؟ بعض قادتهم اخذ يميل ببطء الى "خيار" الدولة الواحدة. بعضهم الآخر ادرك بدوره استحالة هذا "الخيار" لأن الإسرائيليين لا يعقل ان يوافقوا على مشاركة الفلسطينيين في دولة واحدة ستنتهي قيادتها اليهم ، في المدى الطويل ، بحكم العامل الديموغرافي (العددي) الذي يصبّ في مصلحتهم.
ازاء استحالة التوافق على أيِّ حلٍ او تسوية مع الفلسطينيين في الوقت الحاضر والمستقبل المنظور، تعمل "اسرائيل" بلا كلل على إبقاء حال الإنقسام سائداً في الساحة الفلسطينية . لذا عارض معظم المسؤولين الإسرائيليين المصالحة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية المتنافسة. حتى الذين لم يعارضوها إشترطوا لإعادة التفاوض مع منظمة التحرير ضمانةً لتجريد حركة "حماس" من السلاح .
ترامب وجماعته يدركون كل هذه التحديات والمصاعب . حتى الذين يعوّلون بينهم على دور فاعلٍ لمصر في لجم فصائل المقاومة دعماً لمحمود عباس ومن يجاريه في التمسك بـ "خيار" التفاوض ، يدركون الآن انه بعد هزيمة "داعش" و"النصرة" في العراق وسوريا ، وتضامن العراق وسوريا وتركيا وايران ضد مشروع مسعود برزاني ومؤيديه من الكرد الداعي الى الإنفصال عن العراق لإقامة دولة مستقلة ، فقد بات دفع الفلسطينيين الى تسوية غير متكافئة مع "اسرائيل" امراً مستبعداً إن لم يكن مستحيلاً. هكذا لا يبقى امام الفلسطينيين إلاّ خيارٌ واحد : المقاومة الشعبية والمزيد منها.
كل ذلك يعزز مكانة محور المقاومة ودوله وقواه المقاوِمة ودوره السياسي والعسكري في مواجهة استراتيجية الولايات المتحدة القديمة وتلك الجديدة التي وعد ترامب بكشف خطوطها وأبعادها خلال الايام القليلة المقبلة.
ثمة حقيقة تتكشف ببطء إنما بثبات في غبشة الصراعات المحتدمة وغبارها الذي يحجب الرؤية احياناً : نفوذ الولايات المتحدة في ساحات منطقة غرب آسيا ، من شواطيء البحر المتوسط غرباً الى شواطيء بحر قزوين شرقاً ، بات في حال انحسار متواصل ومتسارع ، وان قدرتها على الإملاء والإلزام تتلاشى بوتيرة لافتة.
العاصفة التي وَعَد ترامب بإطلاقها بعد إنهاء هدوئه الخادع لن تباغت احداً من خصومه في غرب آسيا ولن تثير إلاّ مزيداً من الغبار...