نشرت بجريدة "البناء" والقدس العربي"
تاريخ 25/9/2017
في صراعات غرب آسيا :
الولايات المتحدة اللاعب الخاسر الاكبر
د. عصام نعمان
بات غـرب آسيا اكبر ملاعب الصراع بين كبار لاعبي العالم وصغاره ، وبين آخرين إرتقوا بسرعة لافتة الى مراتب اقليمية عالية. ملاعب الصراع منفصلة ومتصلة في آن. تمتّد من الشواطيء الشرقية للبحر الابيض المتوسط الى الشواطيء الغربية لبحر قزوين ، ومن الشواطيء الجنوبية للبحر الاسود الى الشواطيء الشمالية لبحر العرب.
ملاعب الصراع في غرب آسيا مكتظة بلاعبين كثر اقليميين : عرب، وصهاينة ، وترك ، وكرد ، وفرس . الى هؤلاء ، ثمة لاعبان كبيران دوليان : الولايات المتحدة وروسيا الإتحادية ، يشاركهما احياناً لاعب بريطاني وآخر فرنسي ، ويراقب "المباريات" من بعيد لاعب دولي مقتدر: الصين.
لكلٍّ من هؤلاء اللاعبين "لعبته" ، بمعنى قضيته الخاصة ، لكنه يشارك الآخرين في ألعابهم والاعيبهم . اولى القضايا هي قضية العرب المزمنة بما هي صراع من اجل الإستقلال والحرية والوحدة والنهضة . غير انه ، بتدخلاتِ كبار لاعبي اوروبا واميركا ، استطاع الصهاينة مشاركة سائر اللاعبين المباريات المحتدمة منذ النصف الاول للقرن العشرين.
في هذه "اللعبة" تحديداً ، ازداد مع إحتدام الصراع عدد اللاعبين الاقليميين من ترك وفرس . كما حاول لاعبون كرد التسلل الى الملعبين العراقي والسوري لإنتزاع ادوار لهم بغية تنظيم لعبتهم الخاصة.
اقوى اللاعبين واخطرهم واكثرهم خرقاً لقواعد الصراع هو اللاعب الاميركي . ذلك انه تمكّن بعد الحرب العالمية الثانية من ازاحة اللاعبين البريطاني والفرنسي وانتزاع الكثير من ادوارهم. اللافت انه كان دائماً داعماً ومناصراً لللاعب الصهيوني في كل المباريات التي جرت على ملاعب الصراع . كما انه استفاد من خروج اللاعب الروسي بضعَ سنوات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي . لكن ، بعودة اللاعب الروسي بكامل لياقته البدنية الى ملاعب الصراع ، انحسر دور اللاعب الاميركي بشكل ملحوظ وتبدّى ذلك في نتائج المباريات التي جرت ، وما زالت تجري، من العام 2011 فصاعداً.
اذا ما ترجمنا هذه اللوحة الرمزية الى وقائع سياسية وميدانية لخرجنا بصورة واقعية للوضع القائم في غرب آسيا على النحو الاتي:
اولى قضايا الصراع حاليّاً تلك المحتدمة بين الولايات المتحدة وايران. ذلك ان واشنطن تستشعر ، بقلق ، تنامي قوة ايران ، عسكرياً وسياسياً ، ما حملها تحت ضغط "اسرائيل" من جهة ، والكونغرس من جهة اخرى، على التهويل بإلغاء الاتفاق النووي المعقود بين ايران ودول كبرى ست ومصادَق عليه في مجلس الامن ، ظنّاً منها ان ذلك قد يُقنع ايران بالموافقة على تعديله . غير ان طهران رفضت التعديل وهددت بردٍّ حازم على واشنطن اذا ما قامت بإلغاء الاتفاق . الواقع ان جميع الدول الموقعة على الإتفاق ومعظم اطراف المجتمع الدولي تؤيده ما قد يؤدي الى احد احتمالين : إبقاؤه على ما هو عليه ، او قيام الكونغرس الاميركي بتشديد العقوبات على ايران إرضاءً لـِ "اسرائيل" . كلٌّ من هذين الإحتمالين يُضعف الولايات المتحدة ويصنّفها الخاسر الاكبر في الصراع.
ثانيةُ قضايا الصراع الحرب في سوريا وعليها. ذلك ان الولايات المتحدة، بالتواطؤ مع "اسرائيل" وتركيا وبعض دول الخليج ، قامت بدعم تنظيمات إرهابية ناشطة في العراق وسوريا بالمال والسلاح والرجال ما مكّنها من السيطرة ، في بعض المراحل ، على ثلثي مساحة العراق واكثر من نصف مساحة سوريا . غير ان بقاء الجيش السوري متماسكاً واندفاع حزب الله الى مساندته كما روسيا في مرحلة لاحقة ، كسر هجمة الإرهابيين واخرج فصائلهم من معظم المناطق التي وقعت تحت سيطرتهم . في العراق ، اعيد تنظيم الجيش وجرى دعمه بفصائل "الحشد الشعبي" ما ادى الى تحرير الموصل ومناطق اخرى واسعة كانت وقعت تحت سيطرة تنظيمات الإرهاب. هذه الهزيمة المدوّية للإرهاب تشكّل هزيمة للمشروع الاميركي-الصهيوني الهادف الى تفكيك الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني الى جمهوريات موز قائمة على اساس قبلي او مذهبي او أثني . كما هي هزيمة لتركيا التي حاولت ، في ظل اردوغان ، إحياء هيمنة عثمانية ذاوية على المشرق العربي تحت راية الاخوان المسلمين الذين يوالون اقليمياً حزب العدالة والتنمية الاردوغاني.
ثالثةُ قضايا الصراع محاولة بعض قيادات الكرد استغلال انشغال دول الاقليم بحربها على الإرهاب بغية إحياء مطلب الكرد التاريخي بإقامة دولة مستقلة تجمع شعوبهم في تركيا والعراق وسوريا وايران . اللافت ان الولايات المتحدة ، بالتواطؤ مع "اسرائيل" ، دعمت مباشرةً ومداورةً الكرد الإنفصاليين في اطار مشروعها الرامي الى تفكيك محيطها العربي الى جمهوريات موزٍ هزيلة ومتناحرة . غير ان نهوض حكومتي سوريا والعراق ، بالتعاون مع قوى المقاومة العربية المدعومة من ايران ، الى مواجهة الإرهاب التكفيري عطّل جهود الكرد الإنفصاليين او كاد وحمل تركيا على وقف دعمها لـِ "داعش" والتنسيق بجديّة اكثر مع كلٍ من روسيا وايران حليفتيّ سوريا في مواجهة الأرهاب . مع ذلك فإن قضية الكرد الانفصاليين لم تنتهِ بعد لأن الولايات المتحدة و"اسرائيل" تثابران على دعم الكرد الانفصاليين في سوريا والعراق (وحتى في تركيا وايران) بغية تحويل غرب آسيا ، على المدى الطويل ، الى موزاييك حيّ من الكيانات القبلية والمذهبية والإثنية المتمايزة والمتناحرة.
رابعةُ القضايا هي قضية فلسطين التاريخية التي فقدت مركزيتها في حياة العرب والمسلمين جرّاء صراعات الاطراف الفلسطينية من جهة ودعم الولايات المتحدة اللامتناهي لـِ "اسرائيل" وللقوى المحلية العربية المتعاونة معها من جهة اخرى. في هذا السياق ، تحاول ادارة ترامب تدوير زوايا التباين بين "اسرائيل ومنظمة التحرير ( برئاسة محمود عباس) على نحوٍ يؤدي الى "منح " الفلسطينيين "دولة" اشبه ما تكون بكانتون بلدي بحكم ذاتي منزوع السلاح ومرتبط بالإقتصاد الإسرائيلي ، على ان يتمّ ذلك كله في إطار ترتيبٍ اوسع يقضي بمصالحة الدول العربية المحافظة مع "اسرائيل" وتطبيع العلاقات بينها وبين سائر الدول العربية الرافضة توقيع معاهدة سلام معها . لا أفق لمبادرة ادارة ترامب هذه ، خصوصاً بعدما تمكّنت سوريا والعراق من تجاوز خطر الإرهاب الداعشي وبالتالي مباشرة إرهاصٍ بنهوض عروبي جديد مقاوم للكيان الصهيوني وحلفائه.
خامسةُ القضايا هي قضية التخلف العربي الذي انجب ، من بين مواليد قميئة كثيرة ، الإسلام السلفي المتطرف الذي انجب بدوره الإرهاب التكفيري المتوحش. غني عن البيان ان التخلف قضية مزمنة متعددة الجوانب ولا جدوى من مواجهتها إلا بحركة عروبية نهضوية ، ثقافية واجتماعية وسياسية ، تقودها طلائع مقاومة مدنية وميدانية بنَفَس طويل على مستوى القارة العربية برمتها .
هذا على المدى الطويل . اما على المدى القصير والمتوسط فلا بدّ من إضطلاع قوى المقاومة العربية الحيّة في كلٍّ من سوريا والعراق بمهمة إطلاق حركة سياسية نهضوية لبناء دولة "سوراقيا" المدنية الديمقراطية الإتحادية بغية النهوض بمهمتين تاريخيتين : مواجهة الكيان الصهيوني العنصري النووي ، ومقاومة الإرهاب التكفيري المتحالف مع اميركا و"اسرائيل".
المقاومة هي المبتدأ والخبر.