نشرت بجريدة "البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 5/9/2017
نحو معادلة متكاملة :
الشعب والجيش والمقاومة و...الدولة ؟
د. عصام نعمان
طوى لبنان صفحة "داعش" عسكرياً ، لكنه لم يطوِ صفحة الإرهاب امنيّاً . ما زال في وسع الإرهاب ، عقيدةً وتنظيماتٍ وذئاباً منفردة ، ان يُضلّل ويمزّق ويقتل ويدمر.
هذا التحدّي المتجدد يزيد ازمة لبنان المزمنة تعقيداً ، الازمةُ بما هي ظاهرة اللادولة . لا دولة في "لبنان الكبير" مذّ أنشأته سلطة الإنتداب الفرنسي العام 1920 بل نظام هو عبارة عن آليّة mechanism لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم والنفوذ بين اركان شبكة سياسية قوامها متزعمون في طوائف ، ورجال اعمال واموال، ومتنفذون في اجهزة امنية.
النخبة الوطنية المستنيرة تمردت ، بأشكال مختلفة ، على هذه الصيغة السياسية المتخلّفة طلباً للحرية والعدالة والإصلاح والديمقراطية . أفعلُ حركات التمرد تجسّدت في مقاومة الإحتلال الإسرائيلي منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي . نجحت ، على التوالي ، في طرد الجيش الإسرائيلي من الشريط الحدودي المحتل العام 2000، وفي دحر العدوان في حرب "اسرائيل" على لبنان العام 2006 ، وفي سحق الإرهاب التكفيري الداعشي ، بالتعاون مع الجيش اللبناني والجيش السوري ، اواخرَ شهر آب الماضي.
إنتصارات المقاومة لم تقترن بأيِّ اصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وازنة. مردُّ هذا القصور عاملان : حرصُ قيادة المقاومة على إعطاء اولوية مطلقة لمواجهة الكيان الصهيوني والإرهاب التكفيري من جهة ، والحرص من جهة اخرى على عدم استثارة حساسية تكتلات طائفية نافذة ومتخوّفة من انعكاس انتصارات المقاومة على الموازين السياسية الداخلية الدقيقة.
في سياق بناء جبهةٍ وطنيه عريضة داعمة ، رفعت قوى المقاومة شعارَ معادلةٍ تعبوية : الشعب والجيش والمقاومة . "المعادلة الذهبية" تلك فعلت فعلها اذ استقطبت بين اللبنانيين غالبية عابرة للطوائف وداعمة لمطلب مواجهة "اسرائيل" والإرهاب.
لتطويق تداعيات انتصارات المقاومة على المشهد الداخلي ومصالحها السياسية ، رفعت القوى المعادية للمقاومة شعاراً مضاداً : الشعب والجيش والدولة ، بمعنى ان تكون الدولة بديلاً من المقاومة في مواجهة أعداء البلاد الامر الذي يستوجب ، في ظنّها ، إلغاء تنظيمات المقاومة ، لاسيما حزب الله بما هو فصيلها القائد والبالغ الفعالية.
الى شبهةٍ فاقعة تطبع هذا الشعار الملغوم ، فإنه يشكو من نقص فادح وفاضح هو عدم وجود دولة في لبنان بالمفهوم الحقوقي والسياسي والمؤسساتي المتعارف عليه. اما "الدولة " القائمة ، بما هي نظام طوائفي كونفدرالي زبائني فاسد ، فهي اعجز من ان تنهض بمهمة بناء جيش وطني مقاتل ناهيك عن اتخاذِ قرارٍ حاسم بمواجهة اسرائيل والإرهاب.
غير ان كل هذه العوائق والنواقص والتحديات لا تلغي مطلب بناء دولة مدنية ديمقراطية على اسس الحرية وحكم القانون والعدالة والتنمية بل لعلها تستعجل مهمة بنائها . في هذا السياق تتجلّى بضع تطورات وظاهرات يمكن البناء عليها:
اولاها ، نشؤ جمهور واسع عابر للطوائف ورافض للنظام الطوائفي الكونفدرالي الفاسد ، و متمرد على الشبكة السياسية الحاكمة وممارساتها الفاضحة.
ثانيتها ، إقتناع عام بأن لا سبيل الى تجاوز النظام الطوائفي الفاسد بالعنف المنزلق بالضرورة الى حرب اهلية ، ولا من خلال "مؤسسات" او اجهزة النظام المترهل والمتداعي.
ثالثتها ، تطور الإجتماع السياسي اللبناني من وجود ثماني عشر طائفة الى تشكّل ثلاث ظاهرات جامعة ووازنة : تيار عام يجمع سياسياً الطوائف المسيحية كافة ، وتكتل سنيّ ، وثنائية شيعية . هذه التكتلات متكافئة عددياً ويغطي انتشارها كل المناطق اللبنانية . ولعل تشكّلها على هذا النحو يساعد في تلطيف المنافسات والصراعات السياسية التي تدور في ما بينها.
رابعتها ، إخفاق الشبكة الحاكمة في صوغ قانون للإنتخابات على اساس النسبية في دائرة وطنية واحدة تسهيلاً لتطبيق المادة 22 من الدستور التي تنصّ على انتخاب مجلسين ، واحد نيابي على اساس وطني لاطائفي ، وآخر للشيوخ من اجل تمثيل الطوائف ويختص بالقضايا المصيرية . فوق ذلك ، ارتبك اهل النظام حيال قانون الإنتخابات الجديد ومفاعيله المحتملة برغم تشويهه النسبية وصحة التمثيل وعدالته لدرجة حملتهم ، كما يبدو ، على عدم إجراء الإنتخابات الفرعية ما يؤشر الى احتمال عدم إجراء الإنتخابات العامة مطلعَ شهر ايار 2018 .
خامستها ، اتساع الوعي بضرورة الخروج من الازمة المزمنة وتداعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكارثية بمبادرة سياسية وطنية وتحرك شعبي واسع يتوسل المقاومة المدنية ضد اهل النظام بغية حملهم على تعديل قانون الإنتخابات وذلك بإعتماد الدائرة الوطنية الواحدة كشرط لكفالة صحة التمثيل وعدالته وضمانة لتوحيد اللبنانيين بوضعهم جميعاً على مستوى البلاد برمتها امام التحديات نفسها والقوى المتصدية لها ببرامج سياسية وتنموية جامعة.
ولعل في الضائقة السياسية التي تعانيها قيادات التكتلات الفئوية الثلاث المار ذكرها فرصة للقوى الوطنية والتقدمية الحية كما للقيادات المستنيرة والمسؤولة في تلك التكتلات للضغط بغية تعديل قانون الانتخابات وفق الاسس المار ذكرها ، ومن اجل إجرائها بلا ابطاء في مطلع شهر ايار المقبل.