نشرب تجريدة "الخليج"
تاريخ 26/8/2017
السياسة مقرؤة ومسموعة ... فهل تصبح مرئية ايضاً ؟
د. عصام نعمان
قرأتُ بدهشة وبشيء من الغبطة خبراً طريفاً ظهر قبل ايام في صحيفة "ديلي تلغراف" البريطانية . الخبر مفاده انه في الصين ترتبط كاميرات المراقبة بشبكة الانترنت عبر مواقع الكترونية تسمح لأي شخص بمشاهدة تسجيلاتها ، مع عدم مراعاة ايٍّ من قوانين الخصوصية لمن يتمّ تصويرهم. كيف ؟
من خلال منصات متعددة لعرض المحتويات التي تسجلها هذه الكاميرات على الانترنت باعتبارها شكلاً من اشكال الترفيه ، مع السماح للمشاهدين بتسجيل تعليقاتهم من دون رقابة او تشفير.
المحتويات تتنوّع وفق مواقع الكاميرات بين الأمكنة السياسية والريفية وتقاطعات الطرق ومواقع البناء ومحطات الاذاعة ومحلات الحيوانات الاليفة. هناك ايضاً كاميرات في الصالات الرياضية واحواض السباحة والمحلات التجارية والمطاعم وحتى داخل منازل الصينيين انفسهم.
علّقت "ديلي تلغراف" على الخبر الطريف بقولها : "مع انتشار هذه الظاهرة وزيادة عدد المشاهدات ، من المتوقع ان تصبح كاميرات المراقبة بمثابة قطاع ترفيهي متكامل".
هل هي كاميرات مراقبة ام كاميرات تلصص ؟ لعلها الاثنان معاً لكن النتيجة تبقى واحدة : وداعاً للخصوصية !
من الواضح ان كشف تسجيلات الكاميرات يقتصر ، حتى الآن ، على النواحي السياحية والاجتماعية العامة. لكن مَن يدري ، فقد يُصار الى توسيع نطاقها لتشمل ميادين وحقولاً كثيرة في شتى مناحي الحياة العامة والخاصة . فالخبر يشير ، مثلاً، الى كاميرات للرقابة موضوعة داخل المنازل لكنه لا يفصح عمّا اذا كانت موضوعة هناك بطلبٍ من اصحاب المنازل ام بقرار من القضاء او الشرطة او الإستخبارات . أليس من المحتمل ان تقرر السلطة السياسية في قابل الايام ، لسبب او لآخر ، تعميم هذه الآلية (او الظاهرة) لتشمل كل مرافق البلاد ومناحي الحياة العامة والخاصة ؟
لعل السؤال الاكثر غرابة وطرافة هو : هل يمكن ان يمتد تعميم هذه الآلية الى مؤسسات السلطة نفسها ، فيصبح في وسع الراغبين مشاهدة ومتابعة تسجيلات كاميرات المراقبة الموضوعة في مجلس الوزراء ، مثلاً، او في قاعات اجتماعات اركان الدولة مع قادة اجانب او محليين ؟
هذا احتمال مستحيل بحسب الثقافة والتقاليد والأنظمة السائدة في عالمنا المعاصر، لكن قد يأتي يوم يحاجج فيه افرادٌ وجماعات اهلَ السلطة قائلين : اجتماعات وجلسات المجالس النيابية (السلطة التشريعية) يجري الآن في دولٍ عدّة نقلها حيّة بالصوت والصورة الى الملأ ، فلماذا لا يُعتمد الأمر نفسه في المجالس الوزارية (السلطة التنفيذية) ؟
سيردّ اهل السلطة على هذه الحجة بحجة يعتبرونها اقوى : مقتضيات التفكير والتشريع لا تستوجب ، في معظمها ، السرّية فيما مقتضيات التدبير والتنفيذ والامن تتطلّب ، في غالب الاحيان ، الكتمان والسرية والمباغتة.
اكيد ان احداً لن يطلب السماح بمشاهدة تسجيلات عائدة لإدارات الإستخبارات واجهزة الإستقصاء ذلك انها الجهة التي تشرف غالباً على وضع كاميرات المراقبة وتنظيم "متعة" مشاهدتها في الأمكنة والازمنة التي يحددها القانون ، فلا يعقل ان تسمح بمشاهدة تسجيلات الكاميرات اللازمة لحسن قيامها بمهامها ، ولاسيما ما يتعلق منها بالنواحي الامنية.
اذ تجري شرعنة الرقابة بالكاميرات وتعميمها وإجازة مشاهدة تسجيلاتها ، فإن مفاعيل وتداعيات شتى ستنشأ عنها ، لعل اهمها خمسة :
اولها ، إنهاء الخصوصية او ، في الأقل ، تقليص مداها ما يؤدي الى تداخل حيوات الأفراد وتشابكها على نحوٍ يولّد صدامات ومناكفات وفوضى شاملة.
ثانيها ، إنقسام المجتمعات الى جماعتين متنازعتين : المراقِبون ، اي الذين يشرفون على نظام مراقبة الناس ، والمراقَبون اي الذين يكونون موضوع رقابة وقد يصبحون تالياً احدى ضحاياها المحتملين .
ثالثها ، تحوّل السياسة الى تنافس او صراع مرير على امتلاك سلطة الرقابة بما هي القدرة على التأثير او تعطيل التأثير في شتى مناحي الحياة العامة والخاصة . كما ، ربما ، القدرة على الإثراء المشروع وغير المشروع !
رابعها ، نشؤ مهنة ، بل تجارة ، الإخضاع لآليات الرقابة او الإعفاء والإنعتاق منها في شتى مناحي الحياة ومختلف قطاعات الإقتصاد وادارة الشؤون العامة.
خامسها ، تبلّور مدلول مغاير للحرية بما هي حق الإنعتاق من الرقابة ما يؤدي الى نشؤ صراعات ، وربما حروب ، بين معسكر المراقِبين ومعسكر المراقَبين اي بين طبقة المشرفين على نظام الرقابة والمستفيدين من امتيازاته وفرصه المادية، وطبقة الموضوعين تحت الرقابة والمعانين من مفاعيلها وتداعياتها.
هل تنتقل السياسة (والسياسيون) من عصرٍ هي فيه اليوم مقرؤة ومسموعة الى عصر تصير فيه مرئية ومراقبة ومكشوفة بأبعادها كلها ؟..