نشرت بجريدة" القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 21/8/2017
لماذا تجاهر "اسرائيل" بنقاط ضعفها ؟
د. عصام نعمان
يثابر ، بل يتبارى ، قادة "اسرائيل" ومعلّقو وسائل الإعلام فيها في المجاهرة بلا توقف بنقاط ضعفها والتحديات الخطيرة التي تواجهها وذلك بعد انكسار شوكة "داعش" و" جبهة النصرة " وغيرهما من التنظيمات الإرهابية، ولا سيما بعد هزيمتها امام المقاومة اللبنانية (حزب الله ) في سلسلة جبال لبنان الشرقية (عرسال وفليطا) وطردها منها.
ابرز المجاهرين بنقاط الضعف الإسرائيلية رئيس جهاز "الموساد" يوسي كوهين ورئيس حكومته بنيامين نتنياهو . كوهين قال مستنتجاً : "إن التطور المركزي في الشرق الأوسط الآن يكمن في توسّع نفوذ ايران بواسطة قواتها العسكرية والمنظمات التي تدور في فلكها والمستقرة في سورية ولبنان والعراق واليمن".
اقوال كوهين جاءت في سياق تقرير عرضه على الوزراء خلال اجتماع الحكومة الإسرائيلية يوم الأحد 13 الشهر الجاري، وشدّد فيه ايضاً على "ان ايران لم تتخلَ عن مطامحها الرامية الى ان تتحوّل دولةَ عتبةٍ نووية ، وان اتفاقها مع الدول العظمى الست (مجموعة 5+1) حول برنامجها النووي يزيد من عزيمتها على تحقيق هذا الهدف ويعزز انشطتها العدائية في المنطقة ".
نتنياهو علّق في الجلسة نفسها على اقوال رئيس "الموساد" مؤكداً انها تثبت خطأ المعتقدات التي سبقت إبرام الإتفاق النووي مع ايران ، وإن "اسرائيل" ليست ملزمة بهذا الإتفاق بأي شكل من الأشكال (صحيفة "يسرائيل هيوم" 2017/8/14 ).
معلّقو الصحف والقنوات التلفزيونية الإسرائيلية تفوّقوا على كوهين ونتنياهو في إبراز نقاط ضعف "اسرائيل" والتحديات التي تواجهها في المرحلة الراهنة ، فلماذا المجاهرة بها امام الرأي العام ، بل امام العالم اجمع ؟
صحيح ان "اسرائيل" مجتمع سياسي مفتوح ، وان في وسع مسؤوليها واهل الرأي فيها تناول جميع الموضوعات والقضايا التي تتهدد الكيان الصهيوني ، لكن ما تناوله هؤلاء بالكشف والنقد يمسّ أمنه القومي وقد يقوّض معنويات الجمهور ، فما اسباب ظاهرة المجاهرة هذه ؟
الحقيقة ان شعور الإسرائيليين ، مسؤولين ومواطنين ، بتعاظم التحديات والمخاطر المحيطة بهم ليست جديدة . فالجنرال عاموس يادلين ، الرئيس السابق لشعبة الإستخبارات العسكرية "امان" والمدير الحالي لمعهد أبحاث الامن القومي كشف في كلمته الافتتاحية للمؤتمر السنوي للمعهد في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي أنه "لم يعد في وسع "اسرائيل" تحقيق نصر حاسم . هذا الامر انتهى العام 1967 . الحرب ستكون أطول ولن تكون حاسمة".
وزير الأمن الحالي افيغدور ليبرمان ، أقرّ خلال مؤتمر هرتسليا في شهر تموز/يوليو الماضي بغياب الإنتصارات الإسرائيلية منذ حرب 1967 ما عرقل التسوية الاقليمية وتطوير العلاقات مع الدول العربية . قال : قد يكون الاشد دلالة هو نهج المراوغة والضبابية الذي تعتمده الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بعد حرب 2006 في إعلان الاهداف السياسية والأمنية للحروب التي تشنّها . فهي صارت تتجنّب التحديدات الواضحة والصريحة التي يمكن ان يُفهم منها السعي الى إحداث تغيير استراتيجي كهدف للحرب، مفضّلةً الصياغات العامة التي تتيح التملّص من الحكم على نتائج الحرب كالقول ، مثلاً ، " الحفاظ على الهدف" او "تعزيز الردع" او "إعادة الوضع الى ما كان عليه"...
الى ماذا تؤشر هذه المجاهرة ؟
لعلها تؤشر الى جملة تحوّلات سياسية وعسكرية في المنطقة انعكست على "اسرائيل" بصورة مؤثرة منذ مطالع القرن الحالي ، ابرزها خمسة :
اولها ، إخفاق "اسرائيل" في تطويع الشعب الفلسطيني ما ادى الى استمرار المقاومة المدنية والميدانية ، بل الى تنامي قدرات فصائلها المقاتلة، خصوصاً "حماس" و"الجهاد الإسلامي" ، لدرجة تمكّنت معها من تحويل قطاع غزة شوكةً جارحة في خاصرتها. أليس لافتاً نجــاح قــوى المقاومة في القطـاع بإحباط حــروب "اسرائيل" الثلاث عليه فـي 2009 و 2012 و 2014 ؟
ثانيها ، إنهيار النظام العربي بمعظم فئاته الحاكمة الموالية للغرب بالتزامن مع صعود ايران وقيامها بتسليح قوى المقاومة في فلسطين ولبنان، ومن ثم في سوريا في إطار "محور المقاومة" التي قامت اطرافه ، بدعم عسكري ميداني من روسيا ، بمشاركة دمشق حربها الدفاعية ضد تنظيمات الإرهاب ما ادى لاحقاً الى موافقة الولايات المتحدة على مبادرة روسيا الى اقامة "مناطق خفض التصعيد" في شمال البلاد ووسطها وجنوبها في سياق التوجّه الى حل سياسي للأزمة المتواصلة منذ نحو سبع سنوات.
ثالثها ، تداعي المذهب العسكري الإسرائيلي القائم على اساس "نقل الحرب الى ارض العدو" بعد نجاح المقاومة اللبنانية في حرب 2006 بإيصال صواريخها المدمرة الى قلب جبهة "اسرائيل" الداخلية وإحباط محاولات الجيش الإسرائيلي احتلال جنوب لبنان لتدمير مواقع المقاومة وقواعدها الخلفية . ذلك كله اضطر"اسرائيل" الى تعديل استراتيجيتها العسكرية الهجومية بالإنتقال الى خط الدفاع المتمثل بمباشرة بناء جدارٍ واقٍ على طول حدود فلسطين المحتلة مع لبنان ، كما ببناء جدارين واقيين على طول الحدود مع قطاع غزة ، واحد فوق الارض وآخر تحتها بعمق لا يقل عن عشرة امتار بقصد الحؤول دون قيام المقاومة الفلسطينية بحفر أنفاق تؤدي الى محيط المستعمرات الإسرائيلية في النقب.
رابعها ، إخفاق سياسة العقوبات في حمل ايران على وقف برنامجها النووي ما ادى الى قيام ادارة الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما بالإستعاضة عنها بإتفاق نووي مع طهران وقعته دول ست كبرى واقرّه مجلس الامن وذلك بقصد مراقبة برنامجها النووي السلمي في اطار وكالة الطاقة الدولية . الاتفاق النووي ادى الى تحرير مليارات / بلايين الأرصدة الإيرانية المجمّدة في اميركا واوروبا من قيود مفروضة على تجارتها ما افضى الى تعزيز اقتصادها وترفيع ادائها التكنولوجي ودعم صناعة صواريخها البالستية. ذلك كله اثار خشية اميركا كما "اسرائيل" من انعكاساته لاحقاً على نفوذهما ومصالحهما في المنطقة، فقامت واشنطن بفرض عقوبات جديدة على ايران وهددت بضربها في حال استمرارها في تطوير صناعة الصواريخ البالستية الامر الذي عزز عزيمة القياديين الإسرائيليين المتطرفين الداعين الى ضرب ايران بالتفاهم مع ادارة ترامب المتزايدة العداء لها.
خامسها ، تصاعد الإختلاف في صفوف النخبة السياسية والعسكرية القائدة في "اسرائيل" حول مقتضيات الدفاع عن امنها القومي . بعضها ، بقيادة جنرالات متقاعدين ، يميل الى اعتماد "حل الدولتين" في إطار مقاربة سياسية مدعومة من الولايات المتحدة تكفل ضم التكتلات الإستيطانية الكبرى الى الكيان الصهيوني من جهة واقامة كيان فلسطيني منزوع السلاح من جهة اخرى . البعض الاخر ، بقيادة سياسيين يمينيين متطرفين، لا يرى فرصة ولا مستقبلاً لتسوية سياسية مع الفلسطينيين فيتمسك تالياً بسياسة الإستيطان والمواجهة مع الفلسطينيين وقوى المقاومة العربية وايران ، خصوصاً بعدما اضحت ايران طرفاً فاعلاً في الحرب المحتدمة في سوريا ، وذلك بمشاركة مباشرة من حرسها الثوري في الحرب بالمنطقة المحاذية للحدود السورية – العراقية .
في ضوء هذه التحوّلات المتصاعدة ، يمكن الإستنتاج بأن الدافع المرجَّح للمجاهرة بنقاط الضعف هو إعداد الجمهور الى تقبّل الكلفة الباهظة لتحصين الجبهة الداخلية وتحمّل خسائرها المرتقبة من جهة ، ومن جهة اخرى الإنخراط في مناقشة عميقة للتوافق على افعل استراتيجية ممكنة لتعزيز الامن القومي للكيان الصهيوني في ضوء التحديات المتكاثرة حوله وبغية ضمان المزيد من الإلتزام الاميركي المالي والعسكري.