نشرت في البناء والقدس العربي"
تاريخ 14/8/2017
مصر تعود الى سوريا ... بالأصالة ام بالوكالة ؟
د. عصام نعمان
من دون مقدّمات حتى بروتوكولية ، عادت مصر الى سوريا اخيراً. العودة كانت من طريق روسيا . هذا ، بادىء الامر، ما حَدَث في العلن . ماذا في الباطن ؟
العودة سلكت مسارَ ما يُسمى إقامة "مناطق خفض التصعيد". روسيا هي صاحبة المبادرة في هذا المجال ، والولايات المتحدة وافقتها وواكبت جهودها ، ولا سيما ما يتعلّق منها بمنطقة "خفض التصعيد" في جنوب سوريا ، اي في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء تحديداً. من الطبيعي ان يكون لواشنطن دور في هذه المنطقة لأنها مجاورة للجولان الذي تحتله "اسرائيل". من دون موافقة اميركا يصعب على روسيا نيل موافقة "اسرائيل" او ، في الأقل ، ضمان سكوتها.
"اسرائيل" لم تُبدِ ، في الواقع ، موافقةً على منطقة خفض التصعيد المستحدثة بل مجرد سكوت في الشكل سرعان ما أتبعته بإعتراض في المضمون ، ذلك أن لديها شروطاً ومطالب لم توفّرها لها موسكو وإن كانت وعدت واشنطن بدراستها لاحقاً. ابرز الشروط عدم السماح بوجود تنظيمات للمقاومة ، سواء سورية او لبنانية ، في المنطقة المحاذية للجولان المحتل . ابرز المطالب تقليص ، إن لم يكن إزالة ، نفوذ ايران من سوريا. الشرط المذكور آنفاً مقبول مبدئياً من موسكو في هذه المرحلة . المطلب المنشود لاحقاً مرفوض لأن موسكو غير موافقة عليه او غير قادرة على تنفيذه.
الجديد والمفاجىء في مسألة إقامة مناطق خفض التصعيد ليس ما تمّ في جنوب سوريا بل في محيط العاصمة دمشق. فقد تبيّن ان لمصر دوراً جدّياً في توليف واعلان إقامة منطقة لخفض التصعيد في غوطة دمشق الشرقية. لماذا لمصر دور في هذه المنطقة وليس في غيرها ؟
لأن التنظيمات المسلحة الناشطة فيها ، وابرزها "جيش الإسلام" ، تدعمها السعودية بالدرجة الاولى . وبما ان السعودية موافقة ، ضمناً ،على إقامة مناطق خفض التصعيد ، فقد اصبح في وسع مصر ، صديقة السعودية في العلاقات الإقليمية وحليفتها في مجابهة غريمتها قطر، ان تدلي بدلوها في الساحة السورية دونما تحرّج ذاتي او ملامة خليجية.
دور مصر في الساحة السورية ، تحديداً في محيط دمشق ، يوحي بأنه بالوكالة عن السعودية وليس بالأصالة عن نفسها . في الواقع ، إنه الأثنان معاً. نعم ، القاهرة تقوم بما تقوم به في الغوطة الشرقية بطلب علني او ضمني من الرياض ، لكنها تقوم به ايضاً ، والأرجح بالدرجة الاولى، إنطلاقاً من مصالحها الذاتية ومتطلبات أمنها القومي.
ليس سراً ان لمصر عقيدة استراتيجية قوامها ان الاخطار وبالتالي الهجومات التي تعرضت لها كان مصدرها غالباً الشرق. من هنا ينبع حرصها دائماً على ان يكون لها وجود سياسي وامني فاعل في بلاد الشام ، واذا تعذّر ذلك ، فلتكن لها تحالفات وازنة مع قوى سياسية وعسكرية في احدى دول المشرق العربي. ما أملى على مصر في عهد جمال عبد الناصر تسريع وحدتها مع سوريا وإقامة الجمهورية العربية المتحدة ليس الدافع القومي او العاطفة القومية بقدر ما كانت ضرورات امنها القومي الإستراتيجي . أليس لافتاً انه بعد 54 عاماً على إنهيار الجمهورية العربية المتحدة ما زالت مصر تعتبر الجيش السوري هو "الجيش الاول" وان تسمية قواتها المسلحة تقتصر على مصطلحيّ "الجيش الثاني" و"الجيش الثالث" ؟
مصر توّاقة الى استعادة دورها العربي والاقليمي لضرورات امنها القومي الإستراتيجي . في هذا الاطار يقتضي تفسير حرصها على ان يكون لها دور في هندسة وضمان تنفيذ منطقة خفض التصعيد في غوطة دمشق الشرقية. هذا مع العلم ان مصر ، وإن كانت قطعت علاقاتها الديبلوماسية مع سوريا في ذروة الحملة الخليجية عليها ، إلاّ انها كانت تدعو دائماً وتشدّد على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها ومعارضة اي مخططات ترمي الى تقسيمها.
الى ذلك ، ثمة دافع سياسي قوي يحمل القاهرة على الإضطلاع بدور وازن في سوريا . انه تصفية حساب قديم مع قطر التي تتهمها برعاية الاخوان المسلمين وتمويلهم وتغطيتهم إعلامياً . كما ان دعم مصر لسوريا هو فعل مجابهة سياسية وامنية لتركيا الحريصة ايضاً على إحتضان الاخوان المسلمين ، المتهمين بدورهم بأنهم مشاركون ، بأشكال متعددة ، ليس بمحاربة الدولة السورية فحسب بل ضالعون ايضاً في الحرب التي تشنها التنظيمات الإرهابية على مصر عموماً وفي سيناء خصوصاً . لذا فإن دور مصر المستجد في تنفيذ منطقة خفض التصعيد بغوطة دمشق الشرقية لا يُعتبر إسهاماً في الحرب على الإرهاب فحسب بل استجابة ايضاً لمتطلبات أمن مصر الداخلي الذي يهدده تحالف الاخوان المسلمين مع تنظيمات الإرهاب القاعدي في سيناء وفي انحاء اخرى من ارض الكنانة.
بإختصار ، إن ما تقوم به مصر أصالةً عن نفسها وإستجابةً لمصالحها يبدو مرجَّحاً على مقولة ان ما تقوم به هو بالوكالة عن غيرها.