نشرت بجريدة "البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 17/7/2017
فضيحة الغواصات الإسرائيلية كشفت سراً :
نقل إمرة الردع من البر الى البحر...
د. عصام نعمان
"اسرائيل" منشغلة منذ اشهر واسابيع بفضيحة فساد مدوّية تتناول سلاح البحر ، لكن واقعاتها وملابساتها تصيب برذاذها رؤوساً كبيرة في هيكلية الحكومة والجيش . صحيفة "هآرتس" (2017/7/12) اليسارية المستقلة اكدت انه "على الرغم من الجهود التي بذلها مؤيدو بنيامين نتنياهو لتحجيم القضية وطمسها طوال الأشهر الأخيرة ، فقد اوضحت النقاشات الاولى التي جرت في قاعة القاضية عينات رون خطورة الجرائم التي يجري التحقيق فيها. وتفحصُ الشرطة والنيابة العامة شبهات جرائم رشى واحتيال وتحويلات وحذف صفقات ضخمة تابعة لسلاح البحر ، أحد أهم القوى الإستراتيجية في دولة اسرائيل".
التحقيقات تتناول "جزءاً لا يتجزأ من القيادة الامنية ومن كبار رجال الاعمال" ، كما تؤكد "هآرتس" ، ذلك ان بينهم "المحامي ديفيد شمرون ، محامي رئيس الحكومة ، والقائد السابق لسلاح البحر اللواء في الاحتياط أليعازر ماروم ، ورجل الاعمال ميخائيل غانور ، والعميد في الاحتياط امريئيل بن يوسف الذي كان مرشح نتنياهو لمنصب رئيس مجلس الامن القومي ".
خطورة الفضيحة وملابسات التحقيق فيها تتعدى الجانب الأخلاقي والجنائي للقضية لتطاول جانبها الأمني ايضاً. عاموس هرئيل ، المراسل العسكري لـ "هآرتس" ، يقول إنه "لا يمكن تجاهل الانعكاسات المحتملة للقضية في الخارج . ففي الشهر الماضي وافق مجلس الامن القومي في ألمانيا على الصفقات مع "اسرائيل" . لكنه اضاف بنداً تحفظياً يسمح لألمانيا بعدم الإلتزام بالصفقات اذا اتضح انها مشوبة بعمليات فساد. ويمكن تخيّل كيف ستنظر وزارة الدفاع الاميركية الى الصفقات مع وزارة الدفاع والصناعات الاسرائيلية بناء على التقارير التي ستصدر عن التحقيقات. فالاميركيون يميلون الى التعامل بخطورة كبيرة مع شبهات الفساد في صفقات السلاح . ومن المحتمل ان يكون لذلك نتائج اوسع بكثير مما تجري مناقشته حالياً ".
ما معنى "نتائج اوسع بكثير مما تجري مناقشته حالياً " ؟
المعنى المضمر ليس جنائياً بالضرورة بل الارجح ان يكون امنياً . وعندما يكون امنياً فهو مرتبط ، لا محالة ، بالمناقشات العميقة والمتشعبة التي دارت في مؤتمر هرتسليا الأخير وما زالت تدور حول مخاوف "اسرائيل" الامنية وسبل معالجة المخاطر والتحديات التي تواجه امنها القومي ، ولاسيما من حزب الله وايران.
حزبُ الله هو التحدي الماثل والمباشر . ايران هي التحدي غير المباشر إنما الأخطر على المدى الطويل . فالخبراء الإستراتيجيون الصهاينة يعتقدون ان حزب الله اكتسب قدرات عسكرية لم يكن يملكها من قبل ، بالاضافة الى خبرة عملية في ميادين القتال في سوريا. هذا بالإضافة ايضاً الى تسلّحه وتزوده بصواريخ ووسائل قتالية تحضيراً لمهمته الحقيقية الاولى وهي مواجهة اسرائيل".
لمجابهة هذا التحدي الماثل ، قامت القيادة العسكرية الإسرائيلية بسلسلة تدابير لتعزيز قوتها الردعية ابرزها التزوّد بأحدث ما تمتلكه الترسانة الاميركية من صواريخ دقيقة متطورة ، وطائرات متقدّمة مقاتلة وقاذفة ، وقذائف دقيقة موجّهة ، وغواصات المانية متطورة وقادرة على إطلاق صواريخ برؤوس نووية. الى ذلك ، شَرَع سلاح الهندسة الاسرائيلي ببناء جدار دفاعي واقٍ على طول حدود فلسطين المحتلة مع لبنان من الغرب الى الشرق بقصد منع مقاتلي حزب الله من الاندفاع من جنوب لبنان بإتجاه منطقة الجليل المحتلة التي ما زالت ، رغم كل عمليات التهويد والإستيطان، تحظى بأكثرية عربية بين سكانها.
لم تكتفِ "اسرائيل" بكل التدابير "الوقائية" المار ذكرها بل لجأت فوق ذلك الى سلاح الإعلام والتهويل لتلقي الرعب في نفوس اللبنانيين عموماً وقادة حزب الله خصوصاً . فمن على منبر مؤتمر هرتسليا هدد قائد سلاح الجو اللواء امير ايشل لبنان واللبنانيين قائلاً : "انا مقتنع اننا في الحرب بالجبهة الشمالية سنحتاج لفتح اقوى ما لدينا من نار كي نستغل الفترة الزمنية التي ستكون ممنوحة لنا . لديَّ اقتراح جيد لسكان لبنان : اذا غادر الناس منازلهم فإنهم لن يتعرضوا للأذى". قائد الجيش الإسرائيلي ايزنكوت اوضح الأمر : "نحن نراقب جنوب لبنان(...) ونرى ان حزب الله ينتشر في 240 قرية ومدينة وبلدة ، وفي كل بيت يوجد جزء من قوة الحزب". دلالة التهديد واضحة : تدمير كل هذه القرى والبلدات.
هذه التهديدات والتهويلات تخفي ، في الواقع، خوفاً مقيماً : إنه رخاوة بطن الردع الإسرائيلي المتمثل بالجبهة الداخلية . هذا الخوف يتبدّى في تحليلات خبراء استراتجيين كثر ، ولا سيما بعد إتضاح إمتلاك حزب الله اكثر من مئة الف صاروخ موجّه ودقيق بإمكانها الوصول الى اي مكان في فلسطين المحتلة من شمالها الى جنوبها وبالتالي اصابة وتدمير عدد كبير من المواقع التي يزخر بها بنك اهدافه.
لتفادي تدمير مقار وقواعد ومطارات الدفاع الجوي الرادع ، لجأت القيادة العسكرية الإسرائيلية ، على ما يبدو، الى إجراء وقائي وتعويضي في آن : نقل إمرة قوى الردع ، كلها او بعضها ، من البر الى البحر ، اي الى الغواصات المتخفّية في اعماق البحر ما يمكّنها من التصرف بهامش اوسع من الحرية والسلامة. هذا الأمر ، من بين اخرى متعددة ، يُقلق الإسرائيليين ، مسؤولين ومواطنين ، ويضاعف مخاوفهم من تداعيات انكشاف هذا القدْر من الفساد والفاسدين الذي يكتنف فضيحة الغواصات الالمانية ويعرّض العقود المعقودة مع الحكومة الالمانية الى الفسخ.
ماذا تراه يكون ردّ حزب الله على نقل إمرة الردع الإسرائيلي من البر الى البحر؟
ليس لدى حزب الله غواصات ليكون في مقدوره تعقّب غواصات "اسرائيل" لأغراقها وتفادي مخاطرها ، لكن بإمكانه اللجؤ الى عملية استباقية مؤثرة هي المبادرة الى اطلاق اكبر كمية ممكنة من صواريخه الدقيقة لتدمير اكبر عدد ممكن من المواقع والمرافق والمؤسسات والمصانع الإسرائيلية الحساسة ، امنياً وإقتصادياً ، ما يجهض كامل او ، اقلّه ، معظم فعالية الردع الاسرائيلي المقابل . ولا شك في ان القيادة الإسرائيلية تتوقّع إحتمال لجؤ حزب الله الى هذا الخيار ما يجعلها تُحجم ، على الارجح ، عن الإنزلاق الى حرب أعظم كلفةً ، بشرياً وعمرانياً وإقتصادياً، من الكلفة التي يُمكن ان يتكبدها حزب الله ولبنان ، بشراً وشجراً وحجراً.
... ولعل لدى المقاومة خيارات اخرى ، اقوى وافعل.