نشرت بجريدة"القدس العربي"
تاريخ 10/7/2017
ماذ يعني وقف اطلاق النار في جنوب سوريا ؟
د. عصام نعمان
تتشابه الولايات المتحدة والإرهاب في امر واحد على الأقل: كلاهما موجود ، مباشرةً او مداورةً ، في كل مكان على كوكب الارض . لعلهما الاوسع والأثقل والأخطر وجوداً في عالم العرب من اي مكان آخر. هما مشتبكان حيناً ومتعاونان حيناً آخر، لكنهما يتسبّبان دائماً في افتعال مشكلات وازمات تُفسد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلدان عدّة . أليس هذا واقع الحال في سوريا والعراق ولبنان وليبيا واليمن ومصر ، ناهيك عن أقطار مرشحة الى حالٍ مماثلة كالبحرين والجزائر وتونس والسودان ؟
بسببٍ من تدخلاتٍ وحروب عسكرية قامت بها الولايات المتحدة ، وعمليات ارهابية وممارسات وحشية تولاها "داعش" و"النصرة" وامثالهما في البلدان المذكورة ، انجذبت بدوافع شتى دولٌ واطراف اخرى الى ساحات الصراع ما زاد المشكلات والازمات المحتدمة تعقيداً وعنفاً . وفي محاولات حثيثة للتغطية على سؤ الافعال المرتكبة ومفاعيلها الاكثر سؤاً، لجأت الولايات المتحدة وغيرها من اطراف الصراعات المتناسلة في عالم العرب الى عقد الاجتماعات والمؤتمرات الهادفة ، ظاهراً ، الى معالجة المشكلات والازمات المحتدمة ، وباطناً الى التوصل الى معادلات وتسويات من شأنها الحفاظ على النفوذ والمصالح وتعزيزها.
في هذا الإطار ، عُقد مؤتمر استانا الاخير من دون التوصل الى نتائج ايجابية . يعزو معظم الاطراف المشاركين فشل المؤتمر الى سلوكية تركيا التي تحاول إجتياح منطقة عفرين في شمال غرب سوريا بدعوى الحؤول دون ضمها الى مناطق في شرق البلاد تسيطر عليها تنظيمات كردية تبتغي اقامة حكم ذاتي فيها وصولاً الى تحقيق طموح قديم : اقامة دولة كردية تضمّ اكراد تركيا وسوريا والعراق وايران.
الولايات المتحدة تلعب لعبة مزدوجة : تراعي ، من جهة ، تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي التي تحتضن قاعدة جوية (انجرليك) للحلف المذكور وتموّل وتسلّح ، من جهة اخرى ، التنظيمات الكردية السورية المعادية لتركيا. فوق ذلك ، اقامت الولايات المتحدة في شمال سوريا 7 قواعد عسكرية وجوية ونشرت قوة من مشاة البحرية مزودة أسلحةً ثقيلة بدعوى مساندة "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية الناشطة من اجل استخلاص الرقة من ايدي "داعش".
بدأت التدخلات الاميركية في التاريخ المعاصر اثناء ولاية الرئيس السابق باراك اوباما ، لكنها توسعت كثيراً مع بداية ولاية خلفه دونالد ترامب الذي لم يكتفِ بنشر قوة اميركية ثقيلة التسليح في منطقة التنف السورية لعرقلة وصول الجيش السوري الى الحدود السورية - العراقية بغية الإلتقاء مع الجيش العراقي ، ثم اردفت ذلك بقصف قاعدة الشعيرات الجوية السورية بصواريخ "توماهوك" بدعوى الإقتصاص من دمشق لقيامها المزعوم بإستعمالٍ أسلحة كيميائية في منطقة خان شيخون بمحافظة ادلب.الى ذلك ، اعلن ترامب خلال زيارته وارسو (بولونيا) تصدّيه لروسيا وايران في سوريا متهماً الدولتين بزعزعة الإستقرار فيها.
ليس غريباً ، والحالة هذه ، ان تقرر موسكو (بالتفاهم مع دمشق) تعزيز قوتها الجوية في سوريا بوضع بروتوكول يتضمن بنوداً تحدد مسائل انتشار المجموعة الجوية الروسية وممتلكاتها على الاراضي السورية. بعض المراقبين فسّر هذا الإجراء بأنه اشارة الى اطالة الوجود العسكري الروسي في سوريا ازاء تصعيد الإنتشار العسكري الاميركي في ربوعها.
في جنوب سوريا ، تتربص "اسرائيل" بالجيش السوري وحلفائه ، ولاسيما حزب الله ، كما تتخوف من تحريك ايران مجموعات من "فيلق القدس" الى مناطق قريبة من الجولان المحتل بغية المشاركة في مجهود يرمي الى تكوين مقاومة سورية فاعلة تساندها القوى المشار اليها آنفاً. في المقابل ، تسعى "اسرائيل" الى دعم كوكتيل من الفصائل السورية الارهابية و"المعتدلة" لإقامة جيب على طول حدود الجولان المحتل لتأمين مشاركة أتباعها في المفاوضات حول المستقبل السياسي لسوريا بعد وقف اطلاق النار. غير ان سؤالين ينهضان بعد لقاء ترامب وبوتن في قمة العشرين: هل تلتزم "اسرائيل" فعلاً وتُلزم الفصائل الإرهابية الموالية لها بإتفاق القطبين الأميركي والروسي على وقف اطلاق النار في ساحات جنوب سوريا المحاذية للجولان المحتل ؟ وهل يعني إلتزامها وجود تفاهم ضمني بين القطبين على إقصاء المقاومة وحلفائها عن منطقة الجولان ؟
يتحصّل من هذا العرض الموجز لواقع الحال في مختلف الساحات السورية ان خمس دول تتدخل وتتنافس وتتصارع فيها وعليها : اميركا وروسيا وتركيا وايران و"اسرائيل" ، وان لكل منها مصالح واغراض تسعى الى تعزيزها وحمايتها ، وان مشكلات وازمات تنشأ عن هذه الصراعات ، وان من شأن إصرار اميركا وتركيا و"اسرائيل" على نشر قوات داخل سوريا من دون إذن وترخيص من حكومتها يشكّل انتهاكاً لأحكام القانون الدولي وخرقاً لسيادتها ويتسبّب ايضاً في إطالة أمد الصراعات وتعليق مسألة إنهائها الى اجل بعيد في محاولةٍ لإستنزاف سوريا الى درجة إستحالة القدرة على النهوض.
لتفادي هذا الإحتمال الخطير ، ستجد سوريا نفسها مضطرة الى متابعة الكفاح ومضاعفة الجهود وصولاً الى تحرير كل اراضيها المحتلة ، سواء من "داعش" وامثاله او من اميركا وتركيا و"اسرائيل" . ذلك ان إجراء مفاوضات سياسية قبل تحرير كل الاراضي السورية سيؤدي الى مطالبة دمشق بتقديم تنازلات قاسية لا قدرة لقيادتها السياسية والعسكرية على تحملها.
لتقصير امد الحرب والإستنزاف ولإحباط اي توجه اسرائيلي الى انتهاز فرصة تشرذم العرب واستشراء الحروب والإضطرابات في العديد من اقطارهم ، ستجد قيادتا سوريا والعراق نفسيهما مضطرتين الى تجاوز مصاعب وتجارب وتحفظات سابقة من اجل الإرتفاع الى مستوى الأخطار والتحديات الهائلة المحدقة بهما والإتجاه الى مواجهتها في اطار جبهة قومية موحّدة ونَفَس طويل وتعبئة شاملة لضمان النصر.
ايران لها مصلحة في اقامة مثل هذه الجبهة ودعمها لوجستياً وعسكرياً وسياسياً. ذلك ان سقوط سوريا والعراق في براثن اميركا وتركيا واسرائيل ، يقضي على كيانهما ووحدة اراضيهما ويشرّد شعبيهما في اربع رياح الارض. والارجح ان تحذو روسيا حذو ايران ، وإن بإلتزام ادنى فعالية ، فتدعم البلدين في كل ما من شأنه منع استباحتهما من اميركا و"اسرئيل" وتركيا ، وذلك بتزويدهما الأسلحة المتطورة اللازمة في هذا السبيل.
بإختصار ، ستبقى الازمات والصراعات التي تعصف بسوريا والعراق محتدمة وعالقة ، وان لا سبيل امام الجارتين إلاّ قبول التحدي والكفاح بنَفَس طويل وبإطار جبهة موحدة لغاية ضمان اعلى درجات الامن والحصانة والسلامة.