نشرت بجريدة "البناء"
تاريخ 3/7/2017
بعد إنهيار "دولة الخرافة"
الصراع بين اميركا ومحور المقاومة يشتّد ...
د. عصام نعمان
انهارت "دولة الخلافة" ، بل "دولة الخرافة" كما يسميها مناهضو "داعش" الكثر في العراق وعالم العرب. لكن "داعش" كتنظيم لم ينهر... بعد . إنه ما زال ناشطاً في تلعفر وصحراءي نينوى والأنبار وقضاء الحويجة ، جنوب غرب كركوك، والشريط العمراني الممتد بين حديثة والقائم على الحدود العراقية – السورية.
إنهارت دولة "داعش" التي كانت احتلت نحو ثلث مساحة العراق قبل ان تتهاوى وتتحول الى مجموعات مسلحة وذئاب منفردة منتشرة في بعض المناطق والبلدات والاحياء ، تقاتل يائسة عمّا تبقّى لها من اراضٍ واتباع ، فكيف تراها تتدبر امورها في زمن الإنحسار والإندحار؟
لن يتخلى "داعش" عن عقيدته القتالية . إنها "ادارة التوحش" بلا رحمة ضد كل اعدائه ومَن لا يواليه . مراقبون متابعون لتجربته القاسية في العراق يرجّحون ان تنقل قيادة التنظيم "عاصمته " الى الحويجة ، مستغلةً الصراع المحتدم بين الحكومة المركزية في بغداد وسلطة البرزاني في كردستان العراق على محافظة كركوك التي وضع البرزانيون يدهم عليها في حمأة مواجهة "داعش" . مقاتلةُ الدواعش في ما تبقّى لهم من حضور لن تتطلب وقتاً طويلاً إلاّ اذا انفجر صراع من نوع آخر بين ثلاثة اطراف لها حضورها في العراق : اميركا وتركيا وايران .
اميركا لها حضور عسكري يعود الى زمن احتلالها العراق العام 2003 . صحيح انه تقلّص كثيراً منذ العام 2008 ، لكنه ما زال ناشطاً من خلال ما يزيد عن 5000 ضابط وجندي مزودين اسلحة ثقيلة ومتطورة.
نفوذ اميركا السياسي قوي كحضورها العسكري إن لم يكن اقوى . مردُّ ذلك الى تأثيرها على فريق من السياسيين المتنفذين كانوا عادوا الى العراق على ظهور دباباتها الزاحفة لإحتلاله . الى ذلك ، تستغل واشنطن الصراع المحتدم بين حكومتي بغداد واربيل كما مواجهة "داعش" من خلال ما يُسمى "التحالف الدولي" . في هذه المجالات ، قامت بتدريب وتسليح مجموعات من عشائر محافظة الانبار السنيّة بدعوى تمكينها من حماية نفسها من تنظيمات موسومة بأنها شيعية البنية وايرانية التوجّه.
تركيا لها حضور سياسي وعسكري في العراق . حضورها السياسي يتعزز بتأييد جمهور التركمان عموماً ، ولا سيما في تلعفر وكركوك. حضورها العسكري يتجلّى في احتلالها منطقة بعشيقة المحاذية لحدودها مع العراق . ولتركيا مطامع قديمة في مدينة الموصل التي تدّعي ان بريطانيا وفرنسا سلختاها عنها في اعقاب انهيار السلطنة العثماية خلال الحرب العالمية الاولى وقيامهما بتقاسم بلاد الشام وبلاد الرافدين بموجب ما عُرف بإتفاقية سايكس – بيكو. الى ذلك ، تقوم تركيا بتعزيز حضورها العسكري في شمال سوريا لإحباط محاولات بعض الكرد السوريين ، بدعمٍ ملحوظ من اميركا ، إقامة دويلة كردية ، او أقلّه ، منطقة حكم ذاتي.
ايران لها ايضاً حضور سياسي وعسكري في العراق. حضورها السياسي يتعزز بتعاطف فريق من اهل الشيعة معها نتيجةَ دعمها معارضي الرئيس الراحل صدام حسين قبل الإحتلال الاميركي وبعده . حضورها العسكري تمثّل ، بادىء الامر ، بدعمها تنظيمات شعبية ، طابعها الغالب شيعي ، معادية لـِ "داعش" كما لاميركا . غير ان تطورات الحرب في سوريا وعليها، ولاسيما بعد سيطرة "داعش" على مساحات شاسعة من محافظاتها الشرقية المحاذية للحدود العراقية – السورية ، وتفاقم مناهضة اميركا لسوريا ولرئيسها بشار الأسد وتعاونها مداورةً مع "داعش" ضد الجيش السوري ، حمل ايران على تكثيف حضورها العسكري في العراق وصولاً الى تحريك وحدات من الحرس الثوري الإيراني ومقاتلين في صفوف "فيلق القدس" بقيادة اللواء قاسم سليماني ودفعها نحو الحدود العراقية - السورية. في هذا السياق ، لا تخفي طهران اهدافها : إبعاد قوات اميركا وحلفائها عن الحدود بين البلدين لضمان إقامة جسر بري يمتد من ايران عبر العراق وصولاً الى سوريا ولبنان ، وتوفير دعم لوجيستي للجيش السوري وحلفائه تكفل التغلّب على فلول "داعش" و"النصرة" واستعادة وحدة البلاد وسيادتها. اكثر من ذلك ، ترمي ايران وسائر اطراف محور المقاومة الى بناء وجود عسكري شرقيّ الجولان السوري المحتل ليكون منطلقاً لمقاومة تتكامل مع المقاومة المتربصة بـ "اسرائيل" في شمال غربيّ فلسطين المحتلة.
اميركا و"اسرائيل" والسعودية ، كما روسيا وتركيا ، تُدرك مفاعيل الصراع المحتدم في سوريا والعراق وانعكاساته الإقليمية والدولية ما يفرض على جميع اللاعبين التعامل مع التطورات الجارية والمتفاقمة في منظور الصراع الشامل والمتعدد الأطراف والأغراض والمصالح في البرزخ الممتد من الشواطىء الشرقية للبحر المتوسط وصولاً الى الشواطىء الجنوبية لبحر قزوين .
في العراق ، تقوم اميركا بتعزيز الأطراف السنّية المتخوّفة من ايران بغية توليف طبقة حاكمة تحول دون إلتحاق البلاد بمحور المقاومة وتحول تالياً دون قيام العراق ، بالتعاون مع ايران وروسيا ، باستثمار ثروته الغازية في صحراء الأنبار التي تقدّر بما لا يقل عن 57 مليار متر مكعب.
في سوريا ، تتقصّد اميركا و"اسرائيل" إطالة أمد الحرب بتسعير القتال في منطقة القنيطرة وفي منطقة درعا ، وبتوظيف فريق من الكرد السوريين في مقاتلة "داعش" في محافظة الرقة املاً في ان يتمكّن هؤلاء ، بالتعاون مع مجموعات سورية محلية درّبتها اميركا وسلّحتها لتقوم بإدارة هذه المناطق بعد طرد "داعش" منها ، ودعمها مع مجموعات مماثلة في محافظة ادلب واطراف غوطة دمشق الشرقية للحصول على تمثيل وازن في محادثات جنيف المقبلة بشأن مستقبل سوريا السياسي.
دعمت واشنطن مواقفها وترتيباتها آنفة الذكر بعمليات عسكرية لافتة : - اقامت موقعاً عسكرياً في منطقة التنف بجنوب شرق سوريا وقصفت وحدات نظامية سورية في جوارها .
-اسقطت طائرة حربية سورية جنوب الرقة .
- قصفت مطار الشعيرات بالصواريخ بدعوى الإقتصاص من سوريا بعد اتهامها بإستعمال اسلحة كيميائية في منطقة خان شيخون .
- بعد تهاوي اتهام سوريا بإستعمال اسلحة كيميائية عقب تحقيقٍ موضوعي نشره الصحافي الاميركي المعروف سيمور هيرش ، هدّد البيت الأبيض سوريا مجدداً بضربها بدعوى انها تستعد لإستعمال الأسلحة الكيميائية مرة اخرى.
- عرضت عضلاتها البحرية بإرسال حاملة الطائرات "جورج بوش" الى ميناء حيفا .
التهديدات الاميركية وتّرت الأجواء ليس بين واشنطن ودمشق فحسب بل بينها وبين موسكو ايضاً التي سارعت الى اعلان دعمها لسوريا بإرسال رئيس اركان جيشها الى قاعدة حميميم ليكون في استقبال الرئيس الأسد اثناء تفقده عشرات المقاتلات الروسية الرابضة فيه ، ونشرت كتيبة مغاوير روسية في الطرف الشرقي لمحافظة السويداء المحاذي للحدود مع الاردن ، اي في منطقة غير بعيدة عن موقع التنف حيث تحتشد قوات اميركية وحليفة معدّة لمحاولة التدخل ضد الجيش السوري .
برودة اعصاب المسؤولين السوريين ومسارعة المسؤولين الروس والمسؤولين الإيرانيين الى تأكيد دعمهم السياسي والعسكري لسوريا، حملتا واشنطن على تنفيس حملتها المفتعلة بإدعاء وزير الدفاع الاميركي جيمس ماتيس عن ان سوريا "تراجعت" عن استعمال اسلحة كيميائية !
ماذا بعد ؟
ستستمر واشنطن في ممارسة مناورات سياسية وألعاب نارية للتهويل على سوريا من اجل عرقلة استعادة جيشها اراضٍ سورية ما زالت تحت سيطرة "داعش" و"النصرة".
ومع ذلك يمكن إعطاء تقدير موقف أوّلي لما جرى ويجري في العراق وسوريا من اشتباكات سياسية وعسكرية بين مختلف أطراف الصراع في آخر حزيران/يونيو المنصرم : صمود وتقدّم محسوس سياسي وعسكري لمحور المقاومة، وارتباك وتعثر ملحوظان للولايات المتحدة وحلفائها.
... والصراع مستمر.