نشرت بجريدة "البناء" و"الخليج"
تاريخ 17/6/2017
من النظام الاكثري المبرقع بالطائفية
الى النظام الاكثري المقنّع بالنسبية
د. عصام نعمان
عرّف الكاتب والناقد السياسي الراحل منح الصلح لبنان بأنه بلد الطوائف والوظائف والمصايف . لو بقي حيّاً الى ايامنا لكان اضاف المصـارف الى تعريفه الطريف. اسوأ هذه العناصر الطوائف ونتاجها السامّ : الطائفية وما ينبثق منها من قوانين وانظمة وتدابير يُقال دائماً بشأنها للناس إنها مؤقتة. والحال ان لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي لا شيء فيه دائماً إلا المؤقت . كل ما في لبنان مؤقت او انتقالي ولا يبقى دائماً إلاّ وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
قانون الإنتخاب جرى وضعه في عهد الإنتداب الفرنسي منذ نحو قرن، وما زال نافذاً ، مع تعديلات طفيفة ، حتى الوقت الحاضر ، وهو يعتمد نظام الإنتخاب الاكثري الذي ادّى الى إعادة إنتاج النظام الطوائفي الكونفدرالي وتكريس تناوب عائلات وزعامات معدودة على السلطة في شبكة حاكمة شبه أبدية .
محاولات اصلاحية متعددة جرت ، منذ مطالع سبعينيات القرن الماضي ، لإصلاح النظام السياسي بإعتماد نظام التمثيل النسبي في قانون الإنتخاب لتجديد القيادات والسياسات ، لكن دونما جدوى.
اولى المحاولات الجدّية باشرتها الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط العام 1975 وآخرها ائتلاف الاحزاب والقوى الوطنية والتقدمية خلال مؤتمر الطائف (1989) وبعده ، ولاسيما عقب انتخابات العام 2009التي كرّست انقسام اهل النظام بين جماعة 8 آذار وجماعة 14 آذار المحافظتين.
إزاء اشتداد الدعوة وبالتالي المطالبة باعتماد النسبية في قانون الإنتخاب ، توافقت الأطراف المشاركة في حكومة نجيب ميقاتي الإئتلافية على اعتماد صيغةٍ لقانون الإنتخاب مستقاة من تقريرٍ للجنة اصلاحية عُرفت بإسم لجنة فؤاد بطرس كانت اعتمدت في توصياتها نظام التمثيل النسبي على اساس 13 دائرة انتخابية .
رغم إحالة مشروع حكومة ميقاتي على مجلس النواب العام 2012 ، فإن تضارب مصالح اهل النظام وصراعاتهم حالت دون مناقشته واقراره ، فكان من شأن انتخابات العام 2009 المجراة على اساس ما عُرف بإسم "قانون الستين" الأكثري المعدّل ان اورثت فراغاً في العمل التشريعي دام ، بين تقطّع وتواصل ، اكثر من اربع سنوات ، كما اورثت شللاً في عمل الحكومة لمدة مماثلة ، وحالت تالياً دون انتخاب خلف لرئيس الجمهورية ميشال سليمان دام نحو سنة ونصف السنة.
إزاء افلاس اهل النظام وتردّي احوال البلاد والعباد ، اشتدت حملات المطالبة بالإصلاح السياسي والإقتصادي والاجتماعي ، فكان ان اجتمع في اسطنبول صيفَ العام 2016 جبران باسيل ، ممثلاً رئيس "التيار الوطني الحر" العماد ميشال عون ، ونادر الحريري ممثلاً رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري واتفقا على تسويةٍ للخروج من الأزمة قوامها انتخاب عون رئيساً للجمهورية وتسمية الحريري رئيساً للحكومة ، كما اتفقا على جملة امور اخرى بينها صيغة جديدة لقانون الإنتخاب.
تمّ بالفعل انتخاب العماد عون رئيساً في خريف العام الماضي ، لكن تعذّر تسويق الصيغة التي اتفقا عليها لقانون الإنتخاب العتيد ما استوجب عقد اجتماعات متعددة واندلاع صراعات محمومة قبل ان يتوصل الأطراف المتصارعون الى صيغة توافقية جرى اعتمادها اخيراً في مجلس الوزراء وإقرارها في مجلس النواب.
ايّاً ما سيكون مصير قانون الإنتخاب الجديد بعد وضعه موضع التنفيذ في الإنتخابات القادمة ، فإن ثمة ملاحظات خمس اساسية يقتضي بيانها :
أُولاها ، انه ينطوي على نواقص قيل إنه سيصار الى سدّها (؟) وعلى وعود سيصار الى تنفيذها في المستقبل ما يعزّز المقولة الشائعة ان ما من شيء دائم في لبنان إلاّ المؤقت او الانتقالي حتى لو طال أمد الإنتقال.
ثانيتها ، ان الطائفية المشكو منها جرى تكريسها بل تعميقها بتقسيم البلاد الى 15 دائرة انتخابية وذلك بضم اقضية (مناطق) ذات لون طائفي او مذهبي صافٍ او غالب لتكوين دوائر تؤمّن مصالح هذا الحزب (ذي اللون المذهبي الغالب) او ذاك او هذا الزعيم (ذي القاعدة المذهبية الغالبة) او ذاك . ولعل في تقسيم بيروت الى دائرتين ، واحدة شرقية مسيحية واخرى غربية مسلمة يخفي احتمالاً ماثلاً لإمكانية اعادة تفجير الحرب الأهلية.
ثالثتها ، انها حرمت من التمثيل ما يمكن اعتبارها اكبر طائفة في لبنان وهي "طائفة" (او بالاحرى جماعة) اللاطائفيين وذلك بالامتناع ، قصداً وعمداً ، عن تنفيذ المادة 22 من الدستور التي تنصّ على انتخاب مجلس نواب على اساس وطني لاطائفي ، كما بإمتناعها عن اعتماد أهم مقتضيات النسبية الديمقراطية وهي الدائرة الوطنية الواحدة التي تمكّن الاحزاب والقوى الوطنية والتقدمية اللاطائفية من خوض الإنتخابات والفوز بمقاعد من خلال تمكين انصارها الموزعين في جميع انحاء البلاد ، وليس في دائرة واحدة من الدوائر الـ 15 المقررة ، من التصويت للائحتها الإنتخابية الموحدة.
رابعتها ، انها حصرت الصوت التفضيلي الممكن اعطاؤه لواحد من المرشحين في اللائحة الواحدة في القضاء وليس في الدائرة المكّونة من عدة أقضية الامر الذي يعود بالإنتخابات الى مساوىء النظام الاكثري الإقصائي، سيما وان 8 دوائر من اصل 15 مؤلفة من قضاء واحد او نصف قضاء كدائرتي بيروت الاولى والثانية.
خامستها ، عدم المساواة في تقسيم الدوائر ، ذلك ان بعضها ينطوي على13 او 10 مقاعد وبعضها الآخر على 6 او5 مقاعد ما يعني ان بعض الناخبين يستطيع انتخاب عشرة نواب في حين ان بعضهم الآخر لا يستطيع ان ينتخب إلاّ خمسة الأمر الذي يخالف المادة 7 من الدستور التي تنصّ على مساواة اللبنانيين لدى القانون.
فوق ذلك كله ، ينطوي قانون الإنتخاب الجديد على ثغرات ونواقص عدّة ابرزها حرمان المواطنين ممن بلغوا سن الرشد (الثامنة عشرة) من حق الإنتخاب ، وعدم تخصيص المرأة بكوتا (عدد محدد من المقاعد) ، وعدم تخصيص المغتربين بكوتا مماثلة .
بإختصار ، ما زال بمقدور اهل النظام السياسي المترهل إعادة انتاجه ومنع تجديد القيادات والسياسات. ولعل الدليل الدامغ على ذلك قيامهم، من خلال صيغة قانون الإنتخاب الجديد، بإبدال نظام التمثيل الاكثري المبرقع بالطائفية والمحاصصة بآخر من الطراز نفسه مقنّع بمستحضرات نسبيةٍ تجميلية باهتة وعاجزة عن إخفاء القباحة النافرة.