نشرت بجريدة "البناء"
تاريخ 20/5/2017
الهجمات الالكترونية
سلاح للإبتزاز والإرهاب و...الإستخبارات ؟
د. عصام نعمان
تُصنع الأسلحة وتُستعمل ، غالباً ، للقتل . لكن عالمنا المعاصر جعل لها وظائف اخرى. فهي تُستعمل للتهديد والتخويف والترهيب والإبتزاز و... لكل هذه الامور وغيرها أقسى منها بواسطة أجهزة الإستخبارات.
ما حدث اواخرَ الاسبوع الماضي ومطلعَ هذا الاسبوع من هجمات الكترونية مزلزلة شملت اكثر من 200 الف حاسوب (كمبيوتر) في لا اقل من 150 دولة في شتى أنحاء العالم هو حدث تاريخي بإمتياز. وصْفه بالتاريخي . جاء من قيادة الـ"يوروبول" (شرطة الإتحاد الاوروبي). لعل التوصيف الأصح ما اطلقته عليه صحيفة عربية واخرى اوروبية : "11 سبتمبر/ايلول الامن المعلوماتي". فقد اصابت الهجمات الالكترونية الصاعقة الآف المصارف والمؤسسات الرسمية والخاصة مُلحقةً بها اضراراً هائلة ، ما زالت تتعاظم.
من فعلها ؟
جواب "اليوروبول" كان متحفظاً . قال "ما زال من المبكر معرفة من يقف وراء الهجمات ، لكننا نعمل على فك الشيفرة في الملفات التي تضررت". الفنيون الإختصاصيون في اميركا وروسيا فكّوا شيفرة الهجمات وكشفوها للملأ. شركة "مايكروسوفت" العملاقة اعلنت بدورها انها كشفت السرّ. قالت إنها ارسلت "رقعة امنية" لسد ثغرة في نظامها المعروف بإسم "ويندوز اكس بي". المهاجمون ادّعوا لاحقاً انهم اكتشفوها ونفذوا منها . للواقع رواية اخرى : إن اول من اكتشف الثغرة ليس "مايكروسوفت" ولا المهاجمون بل وكالة الامن القومي الاميركي . غير انها "نامت عليها" كي تستعملها لاحقاً كسلاحٍ شبكي تخترق به الحواسيب التي تعمل وفق نظام "ويندوز اكس بي" المستعمل على نطاق واسع في شتى انحاء العالم.
قيام "مايكروسوفت" ، متأخرةً ، بسد الثغرة في نظامها الالكتروني ربما اتاح الفرصة لمهاجمين متربصين اذكياء من محترفي القرصنة الالكترونية من "اكتشافها" ومباشرة استعمالها للإبتزاز لقاء فدية مالية. الغريب ان هؤلاء القراصنة من مجموعة "شادو برودكاست" زعموا انهم استحصلوا على "سر" الثغرة ليس من "مايكروسوفت" بل من مركز وسائط القرصنة التابع لوكالة الامن القومي الاميركي!
هل سرّبت وكالة الامن القومي "السرّ عمداً او خطأً الى القراصنة المحترفين؟ هل الحدث برمته جزء من برنامج الكتروني خبيث تبتغي الوكالة المذكورة بواسطته تحقيق غايات محددة ضد عصابات القرصنة الالكترونية او ، ربما ، حيال اجهزة استخبارات روسية او صينية منافسة ؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن اتهم الولايات المتحدة بنشر "فيروس الفدية" المسؤول عن الهجمات الالكترونية في شتى انحاء العالم . قال " إن الجن الذي اخرجته اجهزة الامن الاميركية من قمقمه قد يسبب الاضرار لصانعيه انفسهم ما يستوجب مناقشة هذا الامر على المستوى السياسي".
الرئيس الاميركي دونالد ترامب تحسّب لمفاعيل الحدث الجلل ، فطلب من مستشاره لشؤون الامن الوطني توم بوسرت الدعوة الى اجتماع عاجل للمسؤولين الكبار في المؤسسات الامنية ذات الصلة . هل يضطر ترامب ، عاجلاً او آجلاً ، الى كشف ملابسات اكتشاف مسؤولي وكالة الامن القومي للثغرة الالكترونية والتستر عليها فترة طويلة لغاية استخبارية من غير تقدير كافٍ لمخاطر حجبها عن شركة "مايكروسوفت"؟
ليس ما يشير الى ان حرباً الكترونية اندلعت او توشك على الإندلاع بين الدول الكبرى . الأرجح ان حرباً كهذه لن تقع لأن الجميع سيكونون متضررين من مفاعيلها وتداعياتها . غير ان مجرد وقوع "الحدث التاريخي" سيضطر الدول الكبرى كما المجتمع الأممي الى مناقشته والتحوّط من مفاعيله ومخاطره على الامن الوطني والامن المالي والإقتصادي لجميع الدول كما للمؤسسات الاقتصادية والمصارف في كل انحاء العالم .
لكن ، ماذا لو ثبت ان جهازاً استخبارياً ما في الولايات المتحدة او في غيرها يقوم بإختراق الامن المعلوماتي للدول والمؤسسات المالية والاقتصادية كي يستعمله ضد دول معادية او منافسة ؟ ألم تقم دول متعددة بإستعمال بعض التنظيمات الإرهابية لغايات سياسية ؟ أليس من الممكن ان تقوم اجهزة استخبارات في دولة او اكثر بإستعمال كل انواع القرصنة المعلوماتية لاغراض سياسية او امنية ؟ في هذه الحال ، ألا يستوجب الإحتمال المقلق تعميق وعي المسؤولين والمواطنين في كل انحاء العالم وتعبئتهم للضغط المنهجي المتواصل من اجل ان تضطلع الامم المتحدة بمهمة مواجهة هذا الخطر المحدق بالبشرية بكل الوسائل المتاحة ؟ ألم تضع الامم المتحدة يدها على مسألتي الاسلحة النووية والاسلحة الكيميائية فأنشأت وكالتين متخصصتين وضوابط صارمة واجهزة دقيقة لمراقبة صنعها للحؤول تالياً دون استعمالها؟ ألا تستحق الهجمات الالكترونية المزلزلة تدبيراً احترازياً وضوابط شديدة مماثلة ؟
لقد بات الإرهاب ، والقرصنة الالكترونية المخترقة للامن المعلوماتي ، والمخدرات اخطاراً شديدة محدقة بالجنس البشري ومهددة لوجوده وبقائه. ذلك كله يجعل الشعوب مسؤولة وبالتالي مُطالَبَة بأن تهبّ بلا إبطاء وبلا هوادة من اجل حمل الأمم المتحدة بكل أعضائها الكبار والصغار على وضع الاسس اللازمة ورقابة الأجهزة الرادعة لحماية وكفالة حق البشرية بالحياة والبقاء.