نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 8-5-2017
مناطق "خفض التصعيد" في وسط سوريا وغربها
لا تعطّل مخطط اميركا في جنوبها وشرقها...
د. عصام نعمان
نجحت روسيا في استانا 4 بحمل تركيا على توقيع مذكرة إتفاق "خفض التصعيد والتوتر" في اربع مناطق سورية . لكنها اخفقت في إقناع الولايات المتحدة بإلتزام الإتفاق ذاته ، لماذا ؟
متحدثةٌ بإسم الخارجية الاميركية اعربت عن املها في ان يُسهم إتفاق استانا في "تخفيف حدة العنف ومعاناة السوريين ويهيّء المسار امام التسوية السياسية "، لكنها ابدت قلقها مما تضمنه الإتفاق من "مشاركة ايران كدولة ضامنة".
تحفّظُ واشنطن كان سبقه رفضُ سبع مجموعات مسلحة ناشطة في مختلف المناطق السورية "تحويل ايران الى طرفٍ ضامن". اللافت ان معظم هذه المجموعات المقاتلة ينشط تحت جناح تركيا ، فهل ان موقفها تمّ بالإتفاق مع انقرة ام جاء استاجةً لضغوط من غيرها ؟
واشنطن رحّبت بالإتفاق "وقدّرت جهود تركيا وروسيا للوصول اليه"، فلماذا لم تنخرط بشكل مباشر في مساره ؟ ثمة اسباب ودوافع في هذا المجال يقتضي استقصاؤها وهي تتعلق ، مباشرةً او مداورةً ، بأهداف استراتيجية بعيدة المدى، لكلٍّ من تركيا و..."اسرائيل" :
لنبدأ بتركيا . لأنقرة ، حيال سوريا ، هواجس عدّة. لكن اولها واخطرها واكثرها مدعاة للقلق هاجسُ الاكراد السوريين وسعيهم المحموم للسيطرة على المناطق الحدودية في شمال سوريا ، ولاسيما في محافظة الحسكة وشمالي محافظة الرقة. لقطع الطريق على طموحات الاكراد السوريين ، قامت انقرة بإنشاء قوات "درع الفرات" المطعّمة بوحدات من جيشها احتلت منطقة واسعة بين مدينتي الباب ومنبج بعدما كانت سيطرت على مدينة جرابلس الحدودية. الى ذلك ، انتقدت انقرة قيام واشنطن بتزويد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) الكردية بأسلحة ثقيلة ودعمها بوحدات من مشاة البحرية ("مارينز") للمشاركة في معركة طرد "داعش" من مدينة الطبقة تمهيداً لطرده من الرقة عاصمة "الدولة الإسلامية " . كل هذه الاعتبارات والمخططات المتصادمة حملت وتحمل انقرة على مراعاة الولايات المتحدة بما هي قائدة حلف شمالي الاطلسي (الذي يضم تركيا) من جهة وحليفة اكراد سوريا والعراق من جهة اخرى ، هذا فضلاً عن كونها ، ظاهراً على الاقل ، منخرطة في محاربة "داعش" في العراق وفي محافظة الرقة ايضاً.
الولايات المتحدة تبدو حريصة ، لاسيما بعد وصول دونالد ترامب لرئاستها ، على استعادة دورها ونفوذها في سوراقيا (سوريا والعراق) بعد تراجعهما إبّان رئاسة باراك اوباما وصعود "داعش" في كِلا البلدين. غير ان هاجس واشنطن الاول يبقى الحدّ من توسّع نفوذ ايران ودورها في سوراقيا ، وخصوصاً بعد قيامها بدعم سوريا ، سياسياً ومالياً وعسكرياً ، في وجه تنظيمات الإرهاب . الى ذلك ، يبدو ان لواشنطن مخططاً يرمي الى تفكيك العراق وسوريا الى كيانات متعددة تقوم على اساس قَبَلي او مذهبي او اثني ، وذلك في سياق سياسة مواجهة ايران ومنعها من الوصول الى الشواطيء الشرقية للبحر المتوسط . مظاهر هذه السياسة الاميركية تتجلى حالياً في ما كشفته تقارير اعلامية ، عربية وغربية ، عن وجود حشود تتجمع في شمال شرقي الاردن امتداداً الى جنوبي شرقي البادية السورية بإتجاه موقع التنف العراقي على الحدود بين البلدين . يتَرَدد ايضا ان الحشود تضمّ وحدات من "جيش سوريا الجديدة " و"مغاوير الثورة " و"جيش العشائر" ، وانه سيجري دفعها بإتجاه محافظة ديرالزور للإلتقاء مع الدواعش الفارين من الموصل والمتعاونين مع متمردين آخرين ضد الحكومة السورية. كل هذه التحركات ترمي في نهاية المطاف الى انشاء كيان-اسفين على طول الحدود السورية – العراقية من شأنه فصل سوريا عن العراق وبالتالي عن ايران لمنعها من الوصول الى شواطىء البحر المتوسط.
"اسرائيل" تحرّض الولايات المتحدة على اعتماد المسار سالف الذكر بما هو نهجٌ فاعل في مواجهة ايران وتجويف مضمون الاتفاق النووي معها ويساعد ايضاً في " تزنير" الكيان الصهيوني بمجموعة من جمهوريات الموز الهزيلة وغير القادرة على الاتحاد لمواجهته .
هذه الغابة من المخططات والتطلعات والمطامع والمطامح والاغراض المتشابكة ستبقى متأججة ، متشابكة ، ومدعاةً لمزيد من الصراعات المتفاقمة في منطقةٍ تضجّ بتناقضات عدة قبل ظاهرة "الربيع العربي" وبعدها. في هذه المعمعة ثمة تاريخان يستوقفان المراقب ويدفعانه الى مزيد من التساؤل :
الاول ، ماذا سيحدث اذا اخفقت الدول الضامنة ، روسيا وايران وتركيا ، في التوافق على التدابير والخرائط اللازمة لتحديد مناطق "خفض التصعيد والتوتر" الاربع في المهلة المحددة لذلك والتي تنتهي في 22 ايار / مايو 2017؟ ثم ماذا سيحدث اذا انتهت مهلة الاشهر الستة اللاحقة لترسيخ هذه المناطق ولم تتوصل الدول الضامنة خلالها الى نتائج ايجابية محسوسة على طريق ترسيخ الهدنة والتوجّه الى تسوية سياسية للأزمة المستعصية ؟
الثاني ، ماذا سيحدث خلال جولة ترامب القادمة على السعودية و"اسرائيل" لتسويق مسعيين غامضين ما فتيء يلوّح بهما في الاونة الاخيرة : تعزيز جبهة الدول المناهضة للإرهاب ، والمبادرة الى تحقيق "سلام تاريخي" بين الفلسطينيين والإسرائيليين ؟
غير ان احداثاً لافتة في جنوب سوريا تستبق جولة ترامب ، ليس اقلها التحركات المريبة التي تقوم بها الفصائل الارهابية المتعاونة مع "اسرائيل" في محافظتي درعا والقنيطرة والمشفوعة بتحركات مريبة مماثلة في شرقي محافظة السويداء وغربها . فهل ثمة ترتيب اميركي–صهيوني ماثل يواكب اقامة منطقة "خفض التصعيد والتوتر" الجنوبية لإجهاضها قبل رسوخها ؟
ثم هناك المجهود القتالي المتسارع الذي تقوم به قوات الجيش العراقي ووحدات "الحشد الشعبي" لإنهاء معركة الموصل وتأمين حدود العراق الغربية مع محافظة الرقة السورية ، وكذلك تأمين منطقة القائم الحدودية مقابل مدينة البوكمال السورية . كل ذلك من اجل تفعيل التعاون بين بغداد ودمشق وتوحيد جهدهما المشترك ضد تنظيمات الإرهاب بإستقلال عن اميركا من جهة وضد القوى الإنفصالية في الداخل من جهة اخرى . فهل تغضّ واشنطن النظر عن هذا التطور المناهض لمخططها التفكيكي المار ذكره ام تسارع الى مواجهته انطلاقاً من منطقة إحتشاد حلفائها بين الاردن وسوريا والعراق في جنوب سوريا الشرقي كما في جنوبها الغربي؟
واشنطن اعلنت ان اتفاق "خفض التصعيد والتوتر" لن يمنع سلاحها الجوي من ضرب "داعش" حيثما يتواجد . ذلك حمل ناطقاً باسم وزارة الدفاع الروسية على الاعلان بأن سلاحها الجوي سيتابع دعم الجيش السوري ضد تنظيمات الإرهاب ، ولاسيما في انطلاقته الجديدة من تدمر لتحرير محافظة دير الزور من "داعش" وحلفائه .
مساعي التهادن ناشطة وكذلك احتمالات التصادم...