تحصين لبنان بالحوار ممكن ... تحييده مستحيل
جريدة "القدس العربي" اللندنية
و"البناء" اللبنانية ، تاريخ 11/2/2014
تحصين لبنان بالحوار ممكن تحييده مستحيل
د عصام نعمان
في غمرة كل ازمة تعصف بلبنان منذ إنفصاله عن سلطة الإنتداب الفرنسي العام 1943 ، يطـرحُ سياسيٌ او مفكـر او حـزب او مرجعية مسـألة حيـاده او تحييده آخر الاطروحات في هذا المجال "مذكرة وطنية" اطلقها في 5/2/2014 غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ، بإسم الكنيسة المارونية المشرقية
المذكرة دعت الى حياد لبنان الإيجابي " المرتكز على قوته الدفاعية بدعم الجيش وسائر القوى الامنية ، والملتزم قضايا الاسرة العربية ، وبخاصة القضية الفلسطينية ، وتلك المتعلقة بالعدالة ، والعيش معاً ، والتنوع في الوحدة ، وحقوق المواطنة ، وبناء السلام" قالت : "كي يتمكّن لبنان المحايد من تأدية رسالته ، يجب ان يكون قوياً للدفاع عن نفسه ولخدمة محيطه والى ان يستطيع استكمال مسيرة هذا الحياد ، يجب العمل على تحييده عن الصراعات بين المحاور الاقليمية والدولية، كما نصّ عليه "اعلان بعبدا" الذي يعتبر خطوة مهمة على هذا المسار ، وعدم السماح بإستعماله مقراً او ممراً او منطلقاً لأي عمل من شأنه ان يورطه في هذه الصراعات او في ازمات تتنافى وخصوصيته ، والتوصل الى الإستراتيجية الدفاعية الوطنية المنشودة التي تمكّن لبنان من إسترجاع اراضيه وحماية حدوده"
يتضح من نص المذكرة ان الحياد الإيجابي الذي تدعو اليه مجرد رؤيةٍ تتطلب مسيرةُ تحقيقها جملةَ شروط وانجازات أهمها "ان يكون لبنان قوياً للدفاع عن نفسه"
لبنان ليس قوياً للدفاع عن نفسه ، وكيف له ان يكون قوياً وقد كانت سياسة الشبكة السياسية المتحكمة بنظامه السياسي تقوم ، ولعلها ما زالت ، على دعوى ان "قوة لبنان في ضعفه" ؟
ضعف لبنان المزمن ، وطنياً وسياسياً وأمنياً ، لم يمكّنه من الدفاع عن نفسه منذ انفصاله عن سلطة الإنتداب الفرنسي فالإنفصال لم يرافقه او يعقبه إستقلال حقيقي ذلك ان استقلاله كان يعني ، ولعله ما زال بالنسبة الى فريق من اللبنانيين، الإستقلال عن سوريا فحسب
لتجاوز هذا الواقع يقتضي ان تكون اولى اولويات اللبنانيين إستكمال استقلال الوطن ثم بناء دولة الإستقلال على اساس المواطنة وحكم القانون والديمقراطية والعدالة والتنمية ليتمكنوا ، في رحاب وحدة وطنية حقيقية ، من الدفاع عن الإستقلال والوجود الحر بعبارة اخرى ، تحقيقُ الإستقلال الوطني وحمايته وبناء دولته المدنية الديقراطية القادرة والعادلة اولويةٌ مطلقة تتقدم اي مطلب آخر
اذ يبدو لبنان ضعيفاً ، متفككاً وغير قادر على حماية استقلاله واسترجاع اراضيه والدفاع عن حدوده ، فإن كل دعوة لحياده او تحييده ، ولاسيما مع استمرار الحرب في سوريا وعليها وتداعياتها المدمرة ، تدخل في دائرة المحال او في باب التمنيات فمن لا يقدر على الاقل لا يقدر على الاكثر وعليه، يكون تحصين لبنان مطلوباً وممكناً لكن تحييده في وضعه الراهن مستحيل
الحقيقة ان البطريرك الراعي واخوته المطارنة يدركون بعمق خطورة الازمة الراهنة وتداعياتها المصيرية بدليل تضمينهم مذكرتهم الوطنية نداء حاراً الى اللبنانيين بأن "يعوا ان اي مشروع وطني لا يمكن ان يتجذر في الواقع إلاّ اذا انتج دولة عادلة وقادرة ومنتجة في كيان مستقر يخدم الإنسان وإلاّ يكون المشروع الوطني غير قابل للتطبيق، والكيان دائم الإهتزاز ، والمواطن في مهب الريح" لذلك اعتبرت المذكرة "ان الخروج من الازمة الراهنة لا يكون إلاّ بالعودة الى المصلحة الوطنية العليا على اسس الميثاق والدستور ، لأن لبنان ( ) يحتاج الى حوار شفاف وصريح يُفضي الى سلام داخلي حقيقي ، والى تحديد الاولويات للنهوض به وهاتان المسؤوليتان ملقاتان على عاتق رئيس الجمهورية الجديد "
في تحديد الاولويات اكّدت المذكرة على "استكمال بناء سلطة الدولة داخلياً وبسطها على كل الاراضي اللبنانية ، ووضع قانون انتخابي جديد وفق الميثاقية اللبنانية ، وإقرار اللامركزية الادارية الموسعة وتطبيقها ، واستكمال تطبيق اتفاق الطائف او النظر في ما يجب ايضاحه او تفسيره او تطويره في ضوء التجربة المعاشة ، بما في ذلك صلاحيات رئيس الجمهورية ، وتأليف حكومات كفيّة ( ) تنهض بالإقتصاد الوطني وتحقق المساواة والعدالة الإجتماعية وتكافح الفقر والبطالة "
للخروج من الازمة تدعو المذكرة ، اذاً ، الى "حوار شفاف وصريح" ، والى "تحديد الاولويات" تقول : "إن هاتين المسؤوليتين ملقاتان على عاتق رئيس الجمهورية الجديد" بعبارة اخرى ، لا سبيل او لا فائدة من تأليف حكومة جديدة تخلف حكومة نجيب ميقاتي المستقيلة والقائمة بتصريف الاعمال ، وان المصلحة الوطنية تقضي بمباشرة الحوار الوطني بالسرعة الممكنة للتوافق على رئيس جمهورية جديد او المبادرة الى وضع قانون انتخابي جديد لتجري على اساسه انتخابات نيابية ، وليقوم المجلس النيابي الجديد بإنتخاب رئيس الجمهورية وبالتالي تأليف الحكومة بغية تنفيذ الاولويات المتفق عليها
هذه المقاربة واقعية ومنطقية ويقتضي اعتمادها ، فمن تراه يبادر الى وضعها موضع التنفيذ ؟
الجواب : هي مهمة جميع المسؤولين في السلطة ، كما مهمة مسؤولي القوى الوطنية الحية خارجها ولعل الخطوات العملية المطلوب اتخاذها في هذا السبيل هي الخمس الآتية :
اولاً ، الكفّ عن محاولة تأليف حكومة جديدة قبل إنتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25/5/2014 لإستحالة ذلك وفق موازين القوى البرلمانية الراهنة من جهة ولإستمرار الازمة السورية وإنعكاساتها على لبنان من جهة اخرى
ثانياً ، مبادرة الرئيس سليمان الى الدعوة لطاولة حوار وطني بتركيبة جديدة تضم ، الى اعضاء الطاولة القديمة ، ممثلَين اثنين عن كلٍ من : هيئة التنسيق النقابية ، الإتحادات والجمعيات النسائية ، الهيئات الإقتصادية ، القوى الوطنية التقدمية: منبر الوحدة الوطنية ولقاء القوى والاحزاب الوطنية والحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي والمؤتمر الوطني التأسيسي للإنقاذ (مجتمعين) ، واتحاد الكتاب اللبنانيين واذا امتنع الرئيس سليمان عن تشكيل طاولة الحوار بصيغتها الجديدة ودعوتها الى الإجتماع ، فإن في وسع الرئيس نبيه بري ان يتولى هذه المهمة
ثالثاً ، في حال إنتخاب رئيس حمهورية جديد او عدم انعقاد طاولة الحوار او عدم صدور توصيات عنها ، تقوم حكومة ميقاتي بحكم ايلولة السلطة اليها بما في ذلك صلاحيات رئيس الجمهورية ، بالمبادرة الى وضع قانون إنتخابات جديد على اساس لبنان دائرة انتخابية واحدة واعتماد نظام التمثيل النسبي او نظام "لكل ناخب صوت واحد" ، واحالته بصيغة المعجل على مجلس النواب وفق احكام المادة 58 من الدستور ليصار الى إصداره بمرسوم اذا تعذر على المجلس الإنعقاد لاخذ العلمٍ به او لتعذر البت به خلال مدة الاربعين يوماً المنصوص عليها
رابعاً ، تقوم حكومة تصريف الاعمال خلال المدة التي يحددها القانون الجديد بإجراء الإنتخابات وذلك بإشراف المنظمات غير الحكومية العالمية المختصة بحقوق الإنسان والحريات العامة ، وحتى بإشراف الامم المتحدة اذا اقتضى الامر
خامساً ، ينتخب المجلس النيابي الجديد ، وقد اضحى له طابع تأسيسي ، رئيس الجمهورية الذي يقوم لاحقاً بإجراء الإستشارات النيابية اللازمة لتأليف حكومة جديدة تتولى تحصين الوطن والدولة بتنفيذ الاولويات المتفق عليها
قد تبدو هذه المبادرات والإجراءات ، في منظور تجارب الماضي التقليدية العقيمة ، ثورية وصعبة التطبيق لكنها ليست كذلك في منظور الظروف الإستثنائية التي تستوجب قرارات إستثنائية وشرعية إستثنائية
أجل ، للقرارات الإستثنائية في الظروف الإستثنائية مشروعية وحصانة نابعة من طبيعة المرحلة ومتطلباتها الاستراتيجية
ثم ، أليس لليل النظام الفاسد آخِر ؟ !