نشرت في "البناء"
تاريخ 6/3/2017
الميدان لا المفاوضات
يقرر مصير وحدة سوريا
د. عصام نعمان
المفاوضات في جنيف بطيئة. الجيش السوري في الميدان متحرّك ومتقدم. هذا هو العنوان الرئيس للأحداث في المشرق العربي في الحاضر والمستقبل المنظور.
المفاوضات بطيئة لأن فصائل المعارضة السورية تشتبك عسكرياً فيما بينها ، ولأن حلفاءها الاقليميين يشتبكون سياسياً فيما بينهم . الفصيل الآتي من الرياض اعتبر نفسه المفاوض الرئيس ورفض اقتراح تشكيل وفد سوري موحد لأنه غير راضٍ عن مواقف فصيليّ موسكو والقاهرة . كما رفض ضمّ اي فصيل الى صفوفه لا يجاريه في المسائل السياسية والإجرائية .
بعض ما ابداه وفد الرياض نابع من تفكير اعضائه . بعضه الآخر موحى له به من طرف حلفائه الاقليميين . فصيلا موسكو والقاهرة اختلفا عن وفد الرياض في التفكير والتدبير، اي في المسائل السياسية كما في المسائل الإجرائية ، وهي مترابطة ومتكاملة في نهاية المطاف ، وابرزها مسألتان : الإرهاب وهيئة الحكم الإنتقالية.
فصيل الرياض رفض بحث مسألة الإرهاب بالتوازي مع المسائل الاخرى. فصيلا موسكو والقاهرة عارضاه وأيّدا موقف وفد الحكومة السورية التي تعتبر مواجهة الإرهاب أخطر التحديات التي تواجه البلاد ، بل الإقليم ، في هذه المرحلة. مردُّ التعارض بين موقف وفد الحكومة السورية وموقف وفد الرياض عدمُ الإتفاق على تحديد الفصائل الإرهابية الناشطة في سوريا من جهة ، ومن جهة اخرى إعتماد وفد الرياض وداعميه الإقليميين ميدانياً على بعض الفصائل المختلف على تصنيفها من جهة اخرى.
ثم ان وفد الرياض اراد البدء ببحث مسألة هيئة الحكم الإنتقالية قبل اي مسألة اخرى. وفد الحكومة السورية لم يمانع في بحثها لكن بالتوازي مع سائر المسائل. لماذا أصرّ وفد الرياض على بحثها والبتّ بها قبل غيرها ؟ لأنه يخشى ان يطول امد مناقشتها في وقتٍ يحرز الجيش السوري وحلفاؤه تقدماً مطرداً على الارض الامر الذي يعزز المركز التفاوضي للحكومة السورية ويُضعف مركز خصومها.
كل هذه الوقائع والذرائع تجعل الميدان ، لا المفاوضات ، العامل الاول والحاسم في تقرير وحدة سوريا . هذا بدوره يفسّر سبب إصرار دمشق على بحث مسألة الإرهاب قبل غيرها ، بل على وجوب دحر الإرهاب وضمان جلائه عن جميع مناطق سيطرته وذلك تحقيقاً لوحدة سوريا الجغرافية والسياسية. وفي نهاية الجولة الاولى من المؤتمر تمكّن الوفد السوري من فرض بند مكافحة الإرهاب في جدول الاعمال الذي اعلن ستيفان دي ميستورا الإتفاق عليه .
ثمة ما يدعم موقف دمشق في هذا المجال. فالجيش السوري وحلفاؤه حرروا مدينة حلب ومحيطها ، ثم اندفعوا شمالاً وحرّروا قسماً من ريفها الشمالي حتى مشارف مدينة الباب. واذ بدا تحرير هذه المدينة مسألة ايام فقط ، حدث امر غريب بقدْر ما هو غامض. فقد انسحب مقاتلو "داعش" بسرعة ملحوظة من مواقعهم داخل المدينة وسلّموها لقوات "درع الفرات" المطعّمة بقوات تركية تضمّ في صفوفها ما تبقّى من "الجيش الحر" في شمال سوريا. وكان تردَدَ ، قبل هذه الواقعة، ان موسكو وانقرة اتفقتا على تمكين الجيش السوري وحلفائه من تحرير الباب والسيطرة عليها بدليل ان الطائرات الحربية الروسية قصفت تشكيلات "درع الفرات" على مشارف الباب قبل تنفيذ "داعش" مسرحية الإنسحاب منها وتسليمها للتشكيلات المذكورة.
لئن اتضح من تصريحات سابقة لطيب رجب اردوغان ان تركيا تعتزم طرد قوات الأكراد السوريين من الباب ومن ثم التقدم شرقاً لتحرير منبج بغية إقامة "منطقة آمنة" في شمال سوريا ، إلاّ ان احداثاُ ميدانية وقعت لاحقاً جعلت من مطامع الرئيس التركي امراً شبه مستحيل . ذلك ان ادارة ترامب الجديدة زودت قوات الأكراد السوريين مزيداً من الدبابات والاسلحة الثقيلة ما يشير الى ان واشنطن لن تسمح لأنقرة بدحر حلفائها الاكراد في شمال شرق سوريا. ثم ان الجيش السوري، وهذا هو التطور الأهم ، تقدّم من جنوب مدينة الباب شرقاً بإتجاه نهر الفرات وسيطر على المنطقة الواسعة الممتدة من جنوبها الى مشارف منبج قاطعاً الطريق على القوات التركية التي يلوّح اردوغان واركان حكومته بأنها ستشارك في معركة تحرير الرقة من "داعش".
الى ذلك كله ، فإن الجيش السوري تمكّن من تحرير تدمر ومطارها ومحيطها من "داعش" واصبح في وسعه ان يتجه شمالاً لتحرير القسم الذي يسيطر عليه "داعش" من مدينة دير الزور ومحيطها . كما اصبح في وسعه ان يتجه الى الشمال الشرقي ليشارك في تحرير مدينة الرقة ومحيطها.
كل ذلك حمل اردوغان على خفض مستوى مطامعه بقوله إن انقرة مستعدة للمشاركة في تحرير الرقة اذا ما اتفقت موسكو مع واشنطن على ذلك . هذا يعني ان انقرة ما عاد في مقدورها التصدي وحدها لـِ "داعش" في الرقة. ثم ان واشنطن لن تسمح لأنقرة بأن تتخذ موقفاً ميدانياً في تلك المنطقة من شأنه النيل من حلفائها الأكراد السوريين . اما موسكو فلن ترضى بأي تحرك تركي يسيء الى حليفتها الاساسية دمشق ، وخصوصاً بعد "فعلة" أنقرة ، بالتواطؤ مع "داعش" ، في مدينة الباب.
اذ تنحسر احلام اردوغان بإقامة "مناطق آمنة" في شمال سوريا ، تتعزز حظوظ الجيش السوري في تحرير مناطق متزايدة يسيطر عليها حالياً "داعش" في شرق البلاد (دير الزور والرقة) و"النصرة" في غربها (ادلب) وفي جنوبها (الجولان ودرعا). غير ان ذلك يتوقف ، الى حدٍّ ما، على ما تعتزم واشنطن القيام به في شمال سوريا الشرقي وفي العراق ، ولاسيما بعد قيام طائرات "التحالف الدولي" الأميركية بتدمير جسر الميادين على نهر الفرات جنوب دير الزور لتعطيل تعاون البلدين ضد "داعش" في المنطقة الحدودية.
وعليه ، بمقدار ما يتمكّن الجيش السوري من تحرير المزيد من مناطق يسيطر عليها "داعش" و"النصرة" بمقدار ما يكون الميدان العامل الاول والحاسم في تقرير نتائج مفاوضات جنيف ، ولا سيما لجهة استعادة وحدة سوريا الجغرافية والسياسية.