نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ27/2/2017
فتح "الباب" على مزيد من الصراعات الإقليمية...
د. عصام نعمان
تستمر الحرب في سوريا وعليها بنجاح ملحوظ على مسارح عمليات ميدانية واسعة تتخلّلها مسرحيات دموية لتغطية مخططات سياسية. آخر المسرحيات الفاضحة جرى تمثيلها في مدينة الباب بشمال سوريا . كانت مسرحية قديمة سبق تمثيلها في مدينة جرابلس القريبة من الحدود السورية - التركية . يومها قام "داعش" بتسليم المدينة للجيش التركي من دون قتال مقابل ان تغضّ انقره النظر عن تدفق مزيد من الرجال والسلاح والعتاد على "داعش" عبر الحدود التركية لمقاتلة الجيش السوري.
المسرحية نفسها جرى تمثيلها في الباب أخيراً حيث سلّم "داعش" المدينة الى تنظيم "درع الفرات" المطعّم بقوات تركية ووحدات مما تبقّى من "الجيش الحر". المحزن ان الفصل الاخير من مسرحية التسليم والتسلّم جرت تغطيته بمجزرة دموية رهيبة نفذها "داعش" في جوار الباب وكان ضحيتها عشرات المدنيين السوريين الابرياء . ما الغاية ؟
حملُ السوريين ، مدنيين وعسكريين ، على مغادرة مناطق الشمال السوري لتمكين حكومة انقرة من اقامة "منطقة آمنة" في شمال البلاد لمنع الأكراد السوريين من الربط الجغرافي بين محافظتي الحسكة والرقة في شمال سوريا الشرقي وبين منطقة عفرين في شمالها الغربي حيث يبتغي المتطرفون الكرد إقامة منطقة حكم ذاتي بمعزل عن الحكومة المركزية في دمشق.
ليس الاتراك والاكراد و"داعش" وحدهم "ابطال" المسرحيات الدموية الدائرة في سوريا للتغطية على مخططاتهم السياسية والاستراتيجية . ثمة لاعب قوي ناشط يقوم بأدوار مفتاحية بعيدة المدى وبعيدة عن الأضواء في سوريا والعراق . إنه الولايات المتحدة التي اقامت ، إبان ولاية الرئيس السابق باراك اوباما ، مواقع وقواعد في محافظة الحسكة وشمال محافظة الرقة ، كما لها مواقع وقوات داخل العراق بمعرفة حكومة بغداد وموافقتها.
الى ذلك ، يقوم سلاح الجو الاميركي ، في اطار ما يسمّى التحالف الدولي، بعمليات وغارات ضد "داعش" في العراق كما ضد الجيش السوري في منطقة دير الزور ، كان ابرزها عملية قصف واسعة استهدفت مواقعه في التلال المحيطة بمطار دير الزور العسكري تمهيداً لقيام "داعش" بإحتلالها ومن ثم محاولة احتلال المطار ايضاً لكن دونما طائل .
يرى قادة سياسيون وعسكريون سوريون وعراقيون ان العمليات الجوية الاميركية تتمّ في إطار مخطط يرمي ، مداورةً او مباشرةً ، الى تفكيك كلٍّ من سوريا والعراق على نحوٍ يؤدي ، بالتعاون مع قوى محلية ، الى اقامة كيان مذهبي بحكم ذاتي في شمال شرق سوريا (الحسكة) وربما دويلة لأهل السنّة على طول الحدود السورية – العراقية تضمّ المحافظات الغربية في العراق والمحافظات الشرقية في سوريا لتصبح أشبه بإسفين يفصل سوريا عن العراق وبالتالي عن ايران.
هذا المخطط كان معمولاً به إبان ولاية اوباما ، وقد جرى تبريره بأنه تدبير وقائي اراد الرئيس الاميركي السابق من ورائه امتصاص معارضة "اسرائيل" الشرسة للإتفاق النووي والإسهام في تحصينها وذلك بتفكيك جوارها العربي الى كيانات طائفية وقبلية واثنية عاجزة عن الاتحاد لتشكيل قوة سياسية واقتصادية وعسكرية تهدد امنها القومي.
لا يمكن الجزم ، في الوقت الحاضر، بأن إدارة ترامب قد تبنّت هذا المخطط اذ ما زالت تدرس ملفات المنطقة لبلورة مواقف سياسية واستراتيجية بشأنها . لكن لوحظ ان ادارة ترامب اجازت تسليم قوات كردية متحالفة مع واشنطن دبابات ومدافع ثقيلة بعد نحو اسبوع من انتهاء ولاية اوباما ، فهل الغاية من ذلك تعزيز القوات الكردية الحليفة لدعم وضمان مشاركتها في معركة الرقة ؟ ثم ، ماذا بعد الرقة ؟
فريق من القادة العراقيين يعتقد ان لتسليح الاكراد السوريين وإشراكهم في معركة الرقة اغراضاً شريرة ويرجّحون ان الاميركيين يرمون من ورائها الى دفع المقاتلين الداعشيين الهاربين من الموصل حالياً ومن الرقة في قابل الأيام الى منطقة دير الزور السورية والأنبار العراقية من اجل ان يشكّلوا نواةً صلبة للدويلة السنّية المراد اقامتها على جانبي الحدود السورية – العراقية.
القادة السوريون يشاطرون القادة العراقيين هواجسهم وتخوفاتهم . لذلك نظموا مباحثات بعيدة عن الأضواء بين القيادتين السورية والعراقية أدت الى التوصل لتفاهم ثنائي عززته مخاطر وصول وحدات من "داعش" الى منطقة طريبيل القريبة من الحدود العراقية –الأردنية وقيامها بمهاجمة قوات حرس الحدود العراقية المتمركزة فيها. الهجمة على طريبيل عززت شكوك فريق آخر من القياديين العراقيين بأن الغاية الأساس من سيطرة "داعش" على محافظة الأنبار هي تفكيك العراق وضمّ المناطق الواقعة تحت سيطرته على جانبي الحدود السورية –العراقية الى المملكة الهاشمية الاردنية.
في ضوء هذه الهواجس والتطورات حزمت القيادتان العراقية والسورية امرهما بالتفاهم على ضرورة اجهاض المخطط التقسيمي الخبيث حفاظاً على الوحدة السياسية والجغرافية لِكلا البلدين. هكذا قام سلاح الجو العراقي ، بالتنسيق مع نظيره السوري، بشن غارات مدمرة على مواقع "داعش" في الأنبار كما في بلدة حصيبة ومدينة البوكمال السوريتين الحدوديتين.
الواقع ان الاميركيين الممسكين بخيوط التحركات السياسية والعسكرية في الإقليم عجّلوا، بعد نجاح موسكو في عقد مؤتمر استانا ، بعقد مؤتمر جنيف- 4 لمشاغلة دمشق بمسرحية سياسية متمادية وتوسيع الإشتباكات الناشطة بين الأطراف السوريين المتنازعين بقصد اثارة المزيد من عواصف الغبار لحجب ما يجري في المشهد المشرقي من عمليات عسكرية تهدف الى تفعيل مخطط تفكيك كلٍّ من سوريا والعراق . أليس لافتاً إصرار وفد الرياض (السوري) على ان تكون هيئة الحكم الإنتقالي وإبعاد الرئيس بشار الأسد عنها القضيةَ الاولى الواجب بحثها وبتّها في مؤتمر جنيف - 4 ؟ وهل ابلغ من تفجيرات حمص الستة الرهيبة دليل على قرار رعاة الحرب بتخريب مفاوضات جنيف لتمديد الحرب على سوريا ؟
في هذا السياق ، يمكن اعتبار ان ما اراده الاتراك (والاميركيون) مؤخراً هو فتح "الباب" على مزيد من الصراعات في سوريا وتمديدها الى العراق بغية تسعير صراعات اخرى ناشطة في داخله كما على حدوده مع الأردن. ولعل مسارعة دمشق وبغداد الى التفاهم والتنسيق لمجابهة مخططات الولايات المتحدة وتركيا تفتح صفحة جديدة في ادارة الصراعات الاقليمية ترمي الى انتزاع العرب زمَام المبادرة ليكونوا هم ، لا غيرهم من دول كبرى واخرى اقليمية ، ضباطَ إيقاع الردّ على هجمات "داعش" وحماة راسمي مستقبل العرب في وطنهم الكبير.