نشرت بجريدة"البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 13/2/2017
مرحلة الكلمات والمخططات المتقاطعة ؟
د. عصام نعمان
هل يستطيع واحدنا مهماً كان حصيفاً ومحيطاً بمعطيات العلاقات الدولية ان يرسم لوحة تقريبية لما ستكون عليه في قابل الأيام بين الولايات المتحدة واوروبا، او بينها وبين روسيا والصين ، او بينها وبين دول غرب آسيا ، ولاسيما ايران وتركيا وسوريا ومصر واسرائيل؟
هل بإمكانه ان يتوقع او يفهم ، بحدٍ ادنى من الواقعية ، ماذا يريد رونالد ترامب ؟ كيف يمكن ان يتصرف حيال الأحداث الاقليمية والدولية؟ او ما يمكن ان تكون عليه ردود فعل قادة الدول المعنية بأقواله وأفعاله ؟
إنها مرحلة الكلمات والمخططات المتقاطعة والمتصادمة . إنه زمن اللايقين.
ليس ترامب ، بفرادته وغرابته ونزقه وقلّة خبرته ، المسؤول الوحيد عمّا آلت اليه العلاقات الدولية والإقليمية . ثمة نزوات شخصية ومصالح اقتصادية وغايات سياسية ونوازع ايديولوجية وعصبيات طائفية وعوامل اجتماعية في عالم اليوم تتشابك وتتصادم وتتفاعل على نحوٍ يؤدي الى نشؤ اوضاع معقدة ومتحوّلة بإطراد وبالتالي عصيّة على الفهم في غالب الأحيان. لنأخذ سوريا والعراق وتركيا مثلاً . هل يمكن معرفة ماذا يريد ترامب فيها ومنها ؟
كان لترامب ، قبل انتخابه ، تغريدات لافتة حيال سياسة سلفه باراك اوباما في سوريا تتعلق بمسألتيّ الأسلحة الكيميائية ونشاط تنظيم "داعش" الإرهابي. فقد اخذ على اوباما تراجعه عن التهديد بضربها بعد قيامها بتفكيك ترسانتها الكيميائية. موقفه العدائي هذا من سوريا لم يتبدل بعد قيامه ، خلال حملته الإنتخابية، بفضح مسؤولية بلاده ، اثناء تولي منافسته هيلاري كلينتون مقاليد وزارة الخارجية ، عن تسليح "داعش" ودعمه ضد حكومتيّ سوريا والعراق . غير انه عاد ، بعد انتخابه، الى التشديد على خطر "داعش" وضرورة التنسيق مع روسيا (وضمناً مع سوريا) لمواجهته . ثم اعلن ايضاً تحبيذه إقامة مناطق آمنة في شمال سوريا مع علمه ان ذلك يتعارض مع موقف روسيا المؤيد لدمشق في رفض المناطق الآمنة .
تركيا ارضاها ترامب بالدعوة الى إقامة مناطق آمنة في شمال سوريا ، لكنه اقلقها بمتابعته سياسة اوباما في تسليح "قوات حماية الشعب الكردي" في سوريا الساعية الى السيطرة على المناطق المحاذية للحدود السورية – التركية بغية اقامة منطقة للحكم الذاتي فيها وربما ، لاحقاً ، دولة كردية بالتعاون مع اكراد تركيا والعراق. ومن المعلوم ان انقرة تعتبر حزب العمال الكردستاني التركي الذي يدعم قوات حماية الشعب الكردي السورية تنظيماً ارهابياً ، فكيف يوفق ترامب بين كل هذه المتناقضات ؟
الى ذلك ، كيف توفّق تركيا تحديداً بين اتفاقها مع روسيا على مواجهة "داعش" في سوريا ودعوة دمشق من جهة وممثلي التنظيمات السورية المسلحة المتمردة على دمشق من جهة اخرى لعقد مؤتمراستانا تمهيداً لعقد مؤتمر جنيف الرامي لإرساء حل سياسي للأزمة السورية في وقت تهاجم تركيا مدينة الباب شمالي حلب للسيطرة عليها قبل وصول الجيش السوري اليها لتحريرها من سيطرة "داعش" ؟ بل كيف يمكن تفسير قيام الطائرات الروسية المقاتلة بقصف القوات التركية على مشارف الباب بالرغم من اتفاق موسكو وانقرة على إرساء حل سياسي للأزمة السورية في مؤتمر جنيف القادم ؟
ثم ماذا تريد موسكو فعلاً في سوريا ومنها ؟ هل تريد تأبيد بقائها فيها ام تريدها ساحةً واداة للمساومة السياسية مع انقرة وواشنطن ؟
ما موقف موسكو الحقيقي من الحركة الكردية في سوريا ؟ هل تريدها وسيلةً ايضاً للمساومة مع انقرة وواشنطن ؟ ثم ، لمصلحة مَن تنشط الطائرات الروسية المقاتلة في محيط مدينة الباب؟ هل لمصلحة الجيش السوري المتقدم لتحريرها من "داعش" ام لمصلحة الجيش التركي الذي ينشط لإستئخار تحريرها كي يبقى "داعش" في محيطها قوةً رادعة لقوات حماية الشعب الكردي التي تستخدمها واشنطن اداةً لتعزيز وجودها في شمال شرق سوريا بذريعة المشاركة في تحرير الرقة من "داعش" ؟
مَن يستطيع تفسير كل هذه الكلمات والسياسات والمخططات المتقاطعة والمتصادمة في الحرب الدائرة في سوريا وعليها ؟
هذا في سوريا . ماذا في العراق ؟
من المفترض ان تكون واشنطن مع بغداد في حربها على "داعش". لكن ما تفسير نجاح "داعش" في توسيع رقعة سيطرته في بلاد الرافدين بعد قيام التحالف الدولي ، بقيادة الولايات المتحدة ، بالتصدي له جواً دونما طائل طيلة سنوات ثلاث! ألم تهدد واشنطن "الحشد الشعبي" بقصفه اذا ما حاول مشاركة الجيش العراقي في تحرير مدينة الرمادي من سيطرة "داعش" ؟ ألم تهدد واشنطن "الحشد الشعبي" أيضاً اذا ما حاول السيطرة على بلدة تلعفر او حاول المشاركة في تحرير مدينة الموصل تحديداً ؟ هل استئخار اقتلاع "داعش" من العراق مردّه الى رغبة واشنطن في استخدامه وسيلةً في تنفيذ مخططٍ ذي ابعاد اقليمية يرمي الى اعادة ترسيم خريطة سايكس – بيكو بإقامة دويلة "سنيّة" تضم محافظات العراق الغربية ( نينوى وصلاح الدين والأنبار) ومحافظات سوريا الشرقية (الحسكة والرقة ودير الزور) لتشكّل اسفيناً يفصل سوريا عن العراق وتالياً عن ايران؟
الى ذلك ، ما موقف ترامب من "تراث" ادارة اوباما في هذا المجال ؟ هل يستمر في استخدام "داعش" في سياسته الأكثر تشدداً ازاء ايران والمتمثلة في محاولة تقليص نفوذها المتزايد في العراق ؟ ما موقفه من وحدة العراق في سياق سعي حركات كردية في العراق وسوريا وتركيا الى اقامة دولة مستقلة للاكراد في الدول الثلاث؟
ثم ، ما موقف موسكو من كل هذه المخططات والتطلعات ؟ هل صحيح ما يتردد عن احتمال التوصل الى صفقة ثلاثية بين ترامب وبوتن واردوغان تتخلى بموجبها واشنطن عن حضانة اوكرانيا ودول البلطيق عسكرياً الامر الذي يريح موسكو فتتحلى بدورها عن دعم حكومة الرئيس بشار الاسد في سعيها لإستعادة وحدة سوريا بتحرير محافظاتها الشرقية ما يريح بدوره كل من الولايات المتحدة وتركيا اللتين تكسبان بإقامة الدولة السنّية-الاسفين المشار اليها آنفاً وتقلّصان نفوذ ايران في سوريا والعراق وتطوّقان مخاطر اقامة دولة لأكراد العراق وسوريا وتركيا ؟
مَن يستطيع تفسير كل هذه الكلمات والسياسات والمخططات المتقاطعة والمتصادمة في ساحات العراق وسوريا وتركيا ؟ ثم كيف للقوى الوطنية الحاكمة والمعارضة في الدول الثلاث ان تتفادى مخاطر وكوارث تلك السياسات والمخططات التي تعتمدها دول كبرى لحماية مصالحها او توسيعها في منطقة غرب آسيا الممتدة من الشواطىء الشرقية للبحر المتوسط الى الشواطىء الشمالية للخليج العربي – الفارسي؟
لعل الجواب البديهي عن هذا السؤال هو : التنسيق والتعاون بين الدول المستهدَفة والمتضررة من تلك السياسات والمخططات ، والإفادة من التناقضات القائمة بين الولايات المتحدة وروسيا وتركيا ، والتحالف الوثيق بين سوريا والعراق وحركات المقاومة العربية لتنسيق مواجهة السياسات والمخططات التي تستهدفها ، والتعاون مع الدول المتضررة منها ايضا كايران ومصر .
هل من نهج آخر افضل وافعل ؟