نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 16/1/2017
لماذا كشف ترامب
اهدافه قبل خطاب تنصيبه ؟
د. عصام نعمان
قبل اسبوع من موعد تنصيبه رسمياً رئيساً للولايات المتحدة ، كشف رونالد ترامب ووزراؤه ومساعدوه تباعاً اهداف سياسته في الداخل والخارج . ففي مؤتمره الصحافي وامام لجان الكونغرس تحدث الرئيس الاميركي المنتخب ثم وزراؤه ومساعدوه المرشحون لحقائب الخارجية والدفاع ولرئاسة وكالة الإستخبارات المركزية (C.I.A) عن التحديات التي تواجه اميركا ورؤاهم لكيفية مواجهتها. ما تلفّظ به هؤلاء جميعاً يطرح سؤالاً عمّا تبقّى لترامب ليقوله في خطاب التنصيب يوم الجمعة القادم.
ترامب معروف بتقلّبه ونزقه ولن يستصعب تالياً ان يقول يوم تنصيبه اموراً مناقضة لما تفوّه به سابقاً وما ادلى به وزراؤه ومساعدوه لاحقاً امام لجان الكونغرس. مع ذلك ، لا بأس في بيان بعض ما قاله وقالوه ومقارنته بأقوال ومواقف للرجل الذي سيحكم اقوى دول العالم لمدة اربع سنوات قادمة في الأقل.
كان ترامب قد اعرب عن اعجابه ببوتن مراراً خلال حملته الإنتخابية لدرجة ان موقع "بازفيد" اتهمه بإمتلاك روسيا ملفات عنه تتضمن فضائح اباحية تمسّ موقعه الرئاسي، وأن ذلك يفسر موقفه المتوجّس والمتودد من الرئيس الروسي. ترامب لم يتحمّل هذا الإتهام المهين ولم يكتفِ بنفيه بل ارفق به تأكيداً بأن " لا علاقة لي بروسيا ولا يوجد عقد ولا قروض ولا شيء اطلاقاً ولا صداقة مع روسيا لأن بيننا خلافات على المصالح ".
مرشح ترامب لحقيبة الخارجية ريكس تيليرسون كان اقل ترفقاً ببوتن من رئيسه. قال امام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس إنه لا يستبعد دوراً روسياً في الإختراق الإلكتروني للإنتخابات الاميركية ، مرجّحاً ان يكون الرئيس الروسي اعطى ضؤاً اخضر لهذه الغاية. كذلك بدا تيليرسون اكثر تشدداً مع روسيا من ترامب بإنتقاده " استيلاء بوتن على شبه جزيرة القرم"، مؤكداً ان روسيا الآن تشكّل خطراً ، وانه " من حق حلفائنا في الحلف الأطلسي ان يقلقوا من بروزها مجدداً" . كما تميّز تيليرسون عن ترامب بموقف اكثر تشدداً من الإسلام الراديكالي واكثر ليونة حيال حلفاء اميركا الخليجيين . قال إنه يقتضي "إعادة بناء ارتباطاتنا القديمة والهشة الآن، والتشدد مع خصومنا والرد على انتهاكاتهم للإتفاقات" ، كما وضع تنظيم الاخوان المسلمين و"عناصر في ايران" ، و تنظيم "القاعدة" ضمن سلّة "التطرف الإسلامي".
مرشح ترامب لحقيبة الدفاع الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس ومرشحه لرئاسة وكالة الإستخبارات المركزية مايك بومبيو اتخذا امام الكونغرس مواقف مغايرة لرئيسهما في مسائل جوهرية بينها دور الإستخبارات الاميركية والسياسة التي تنتهجها روسيا.
ماتيس اعلن ، خلافاً لترامب ، إلتزامه الإتفاق النووي المبرم مع ايران والدول الست ، مشدداً في الوقت ذاته على وجوب الرد على "خروقها الصاروخية البالستية"، متهماً الرئيس الروسي بالسعي الى تفكيك الحلف الأطلسي ، وداعياً -خلافاً لترامب- الى "ترميم التحالف مع الدول العربية الخليجية". كما دعا ماتيس الى "استعادة العلاقـــــات مـــع اسرائيل (وكأنــها مقطوعـــة اصلاً ! ) والسعـــــي الى حـــــــل النـــــــــــزاع الفلسطيني- الاسرائيلي" ، مؤكداً ان النظام العالمي يواجه "اضخم هجوم منذ الحرب العالمية الثانية" ، ومحمّلاً روسيا والصين وتنظيمات ارهابية دولية مسؤولية اتجاهات وممارسات مزعزعة للإستقرار . غير ان أهم "اعترافاته" امام الكونغرس قوله إن الجيش الاميركي ليس مستعداً تماماً لمواجهة كل هذه التحديات .
بومبيو كان اكثر صراحةً وتشدداً من زميله ماتيس. اكد ضرورة مواجهة روسيا، ووصف ايران بأنها "دولة قيادية في رعاية الإرهاب"، وان الحرب في سوريا انتجت "أسوأ الازمات الانسانية في القرن الحادي والعشرين وادت الى تفاقم التطرف والمذهبية وعدم الإستقرار في المنطقة واوروبا ، والى أسوأ ازمة للاجئين في التاريخ الحديث".
من مجمل ما ادلى به وزراء ترامب ومساعدوه يتضح ان كلهم إلتقوا معه على ادانة الإرهاب وضرورة التشدد في مواجهته ، لكن اياً منهم لم يرتقِ الى مستواه في تحميل الولايات المتحدة (خلال رئاسة اوباما) مسؤولية إنتاج تنظيم "داعش" ورعايته، وإن كان كلهم اكثر تشدداً منه حيال روسيا والصين. لكن اللافت ان ماتيس خالف ترامب في مسألة الاتفاق النووي اذ دعا الى إلتزام بلاده به لأنه "عندما تلتزم الولايات المتحدة كلمتها عليها ان تحترم هذا الإلتزام وان تعمل مع الحلفاء للتأكد من تطبيق الإتفاق".
لماذا كشف ترامب الكثير من اهدافه قبل خطاب تنصيبه ؟ لماذا سمح بهذا التباين في المواقف من بعض القضايا الاساسية بينه وبين وزرائه ومساعديه؟ هل هو نتيجة تفاهم مسبق بينه وبينهم ، كما ادعى ، لتمكينهم من "إبداء وجهات نظرهم الخاصة" ؟ هل هو نتيجة تقلّبه في الرأي والنوازع ؟ أم هو نتيجة مراعاته ووزرائه لإلتزامات قديمة لأميركا حيال حلفائها كما حيال خصومها ما يستوجب تدوير الزوايا حفاظاً على مصالح اساسية؟
ثمة أجوبة متعددة لهذه الأسئلة المحيرة . لكن الامر الثابت ان اميركا والعالم سيكونان ، خلال عهد الرئيس الأدنى شعبيةً بين الرؤساء الأميركيين المتعاقبين، في حال ترقّب دائمة لمفاجأته الكثيرة والمثيرة في الداخل كما في الخارج ، وان ذلك يشكّل ، من بين امور اخرى ، احد ابرز الأدلة على ان النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية ماضٍ الى افول ، وان نظاماً عالمياً مغايراً وملتبساً يولد من جديد.