نشرت بجريدة "القدس العربي" والبناء"
تاريخ 31/12/2016
عشر حقائق استراتيجية
بعد تحرير حلب وقبل تنصيب ترامب
د. عصام نعمان
دشّن تحرير حلب من الإرهابيين مرحلة جديدة من الصراع في سوريا وعليها، بل من الصراع في الإقليم وعليه. لا غلوّ في القول إن اعلان وقف اطلاق النار على جميع الاراضي السورية قبل ساعات من إنبلاج فجر عام جديد يشكّل حلقة متقدّمة في سياق الصراع جرى استعجالها لتكوّن بمفاعيلها البعيدة المدى امراً واقعاً قبل تنصيب رونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في 20 كانون الثاني /يناير 2017.
حقائق عشر استراتيجية تنطق بها ملامح مرحلة الصراع الجديدة :
أولاها ان اعلان وقف إطلاق النار ينطوي على تفاهم يرتقي الى مستوى اتفاق استراتيجي بين روسيا وتركيا وايران لتدبّر شؤون إقليم غرب آسيا الممتد من جنوب شواطيء بحر قزوين الى شرق شواطيء البحر المتوسط والمشاركة تالياً في رسم الخرائط السياسية لمصائر بلدانه ومصالحها من خلال منافسة محمومة مع الولايات المتحدة ترتقي الى مستوى حرب باردة.
ثانيتها ان الاتفاق الثلاثي ينطوي على شريك رابع ضمني هو سوريا . ايران تتصرف كوكيلة لسوريا في مداولات قادة الإتفاق ، وروسيا كحليفة داعمة لها.
ثالثتها ان الرئيس بشار الاسد بكّر في إلتزامه اعلان وقف اطلاق النار ، واعتبره مدخلاً للإصلاح السياسي والدستوري ولتأليف حكومة جديدة . وما كان الأسد ليفعل ذلك لولا ان تحرير حلب أوجد ميزان قوى جديداً لمصلحة حكومته يمكّنها من تعزيز مركزها وتغليب شروطها في المفاوضات القادمة مع اطراف المعارضة السورية سواء في الاستانة (كازاخستان) او في جنيف.
رابعتها ان رجب طيب اردوغان كرّس بإتفاقه مع روسيا وايران استدارةً واضحة بعيداً عن الولايات المتحدة التي باتت في نظره حليفة مموّلة ومسلحة لخصومه من الاكراد السوريين المتعاونين مع حزب العمال الكردستاني والمنخرطين في مشروع لإنشاء كيان سياسي للاكراد بين سوريا والعراق وتركيا.
خامستها ان السعودية استشعرت خسارتها معركة قلب النظام في دمشق (والعراق) بسبب فتور الولايات المتحدة في الحرب ضد خصومها في سوريا (واليمن) فاختارت انتهاج سياسة تحديد الخسائر في ساحتي سوريا والعراق بتعبئة الجهود الرامية الى اقامة جبهة خليجية وعربية مناهضة لإيران ، وبمحاولة إقناع الولايات المتحدة بضرورة معاودة دعمها وحلفائها لمجابهة طهران.
سادستها ان الولايات المتحدة استشعرت مخاطر الاتفاق الثلاثي وانعكاساته السلبية على نفوذها ومصالحها في غرب آسيا كما على امن اسرائيل فتظاهرت بتأييد اعلان وقف اطلاق النار في سوريا ، إلاّ انها ارفقت ذلك بإعلان سلسلة عقوبات صارمة ضد روسيا (بينها طرد 35 ديبلوماسياً واغلاق مجمّعين روسيين في ولايتي نيويورك ومَرلاند لهما صلة بأنشطة استخبارية ) بدعوى ثبوت علاقتها بهجمات ألكترونية ضد مقار الحزب الديمقراطي اثناء حملة الإنتخابات الرئاسية الامر الذي سيؤدي الى إرباك ترامب في سعيه الى التلاقي مع فلاديمير بوتن على محاربة الإرهاب ، ولا سيما تنظيم "داعش" ، واعتباره قاسماً مشتركاً للتعاون بينهما على الصعيد الإقليمي.
سابعتها ان قلق "اسرائيل" تضاعف بعد الاتفاق الثلاثي. ذلك انها تشعر ، ولاسيما بعد موافقة واشنطن الضمنية على قرار مجلس الأمن الدولي بإدانة الإستيطان ووجوب وقفه ، بأن ادارة اوباما قد استكملت ، على حد تعبير مدير الإستخبارات الإسرائيلية السابق عاموس يادلين ، "ارثاً اشكالياً من الإخفاقات في الشرق الاوسط : الوقوف موقف المتفرج مما يجري في سوريا ؛ عدم القدرة على الانتصار على "داعش" ؛ التسبّب بفراغ اقليمي ملأته روسيا وايران ؛ سلسلة ازمات عدم ثقة بين ادارة اوباما وحلفائها في المنطقة". وقد فسرت المؤسسة الحاكمة في "اسرائيل" الإتفاق الثلاثي بأنه تكريس للوجود العسكري الإيراني في سوريا بالإضافة الى الوجود العسكري الروسي الأقدم عهداً ودوراً . ذلك كله يؤدي الى مضاعفة اعتماد الكيان الصهيوني على الولايات المتحدة كحليف وحيد من جهة، وتعقيد مهمة ترامب الراغب في دعمه وإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني لمصلحة الصهاينة من جهة اخرى.
ثامنتها ان قرار مجلس الامن بإدانة الإستيطان الصهيوني ووجوب وقفه قضى في الواقع على ما يسمى العملية السياسية ، اي "خيار" المفاوضات بين "اسرائيل" والفلسطينيين . ذلك ان الفلسطينيين لا يستطيعون بعد إقرار ذلك القرار الفاصل العودة الى طاولة المفاوضات ، كما سيستنتجون بأن التجاوب مع مطالبهم سيأتي من الامم المتحدة وليس من التفاوض مع "اسرائيل" وفق شروطها ، وان ايران ستغتنم الفرصة المتاحة لمضاعفة دعمها لتنظيمات المقاومة الفلسطينية التي سيبدو نهجها منسجماً مع قرارات مجلس الامن والشرعية الدولية.
تاسعتها ان ايران التي تحظى بنفوذ واسع في العراق ومثله في سوريا ، وخصوصاً بعد وقف اطــلاق النار فيهـا وبالتالــي توسيــع جبهة القــوى المضــادة لـ "داعش" و"النصرة" وحلفائهما وترجيح القضاء عليهما ، ستحظى بميزة استراتيجية اضافية هي وصولها الى الشاطيء الشرقي للبحر المتوسط عبر جسر بري- عراقي- سوري ، وان من شأن ذلك ردع "اسرائيل" بل تهديد وجودها اذا ما حاولت مهاجمة ايران للقضاء على صناعتها النووية ، اذّ تصبح هدفاً سهلاً لصورايخ ايران البعيدة كما القريبة المدى على طول خط جغرافي متواصل من شواطيء بحر قزوين شرقاً الى شواطيء البحر المتوسط غرباً.
عاشرتها أن نجاح محور المقاومة بالتعاون مع روسيا وتركيا في إجلاء "داعش" و"النصرة" عن المناطق التي يحتلها الإرهابيون في العراق وسوريا لن يقضي على ظاهرة الإرهاب كلّياً ، ذلك ان تنظيمات الإرهاب ستعود الى نهجها القتالي القديم القائم على تنظيم خلايا "نائمة" بين السكان الامنين وتدريب "ذئاب منفردة" مندسين بين الأهالي في المدن والقرى والهجوم بهؤلاء جميعاً في اوقاتٍ متفاوتة واماكن مختلفة على الإنسان والعمران في كل مكان ، من هنا تتضح حقيقة ساطعة هي ان القضاء على الإرهاب مسار وليس مجرد قرار ، وان الامر يتطلب استراتيجية متكاملة الجوانب والأبعاد والأطراف والساحات ، وان الجهد الرئيس يجب ان يتركّز على استهداف اسبابه وجذوره ، السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية ، وان ذلك يتطلب زمناً طويلاً.
إنها حقائق عشر تنطوي على عشرات التحديات وتضج بصراعات مريرة تتطلب عشرات السنين لحسمها.