نشرت بجريدة "البناء"
تاريخ 24/12/2016
ظاهرة العصر :
الإستقلال في الداخل... وعنه!
د. عصام نعمان
عشتُ من خلال التلفزيون ، بالصورة والصوت ، مشاعرَ ومظاهر فرحة حلب، اهلها وسكانها ، بتحريرها من الإرهابيين وبعودتها الى نفسها.
انها فرحة عارمة ، عميقة ، كيانية ، جماعية . انها فرحة السجين العتيق الخارج من عتمة سجن أبدي الى نور حريةٍ مشتهاة وعصيّة حتى في الاحلام.
ليس من الحكمة والعلم في شيء ان يبني المشاهد والمستمع من الصوَر والأصوات التي تفيض بها برامج التلفزيون نظريةً او نسقاً فكرياً او اجتماعياً. مع ذلك ، لا بأس في تظهير المشاعر التي تطفو في العقل والنفس لحظةَ الإنفعال بالصورة والصوت المنبعثين من مشهد نادر واستثنائي.
ما اعبّر عنه في هذه العجالة ، اذاً ، هو مجرد خواطر في لحظة انفعال بهيجة ومؤلمة في آن. انها خواطر للتفكّر والتبصر وليست احكاماً للتقويم والتعميم.
بدَت حلب في فرحة تحريرها من الإرهابيين كأنها تحتفل بتحقيق استقلال عن خارجٍ وخارجيين كانوا يحتلون بعضاً من داخلها.
لا بدّ ان افراداً وجماعات بين المحتفلين شعروا بأن بعض الداخل الذي كان يحتله إرهابيون خارجيون هو داخل سوري وليس داخلاً حلبياً فحسب. لعل هؤلاء شعروا ايضاً بأنه مع طرد الإرهابيين الخارجيين تحقق استقلال في الداخل الاصغر، حلب، عن الخارج الاكبر ، اميركا واوروبا واسرائيل، الذي يشن حرباً لا هوادة فيها على الداخل الاكبر : سوريا .
لا رغبة لدى حلب ، اهلاً وسكاناً ، ولا مصلحة لها في الإستقلال عن الداخل الاكبر ، سوريا ، وطناً ودولة . لكن الفرحة العارمة بالتحرر من الإرهابيين الخارجيين والإبتهاج بالإستقلال في الداخل الأصغر عن الخارج الأجنبي الاكبر هي مجرد تعبير صارخ عن رفضٍ للإرتهان لبعض الداخل المحتل والمرتهن لخارج اجنبي عدواني.
هذا الإستنتاج المبدئي او البدائي يطرح سؤالاً: ما سبب هذه الظاهرة البازغة ؟
لعل السبب الرئيس الذي تطفو مظاهره على سطح الواقع المرئي والمحسوس هو انفجار او تفجير المجتمع التعددي في الداخل السوري ما ادى الى استشعار بعض مكوّنات المجتمع التعددي بهوية خاصة او بخصوصية متميزة عن سائر الخصوصيات المحلية.
الى هنا يبدو الأمر طبيعياً ومألوفاً في ظروفٍ للمكان والزمان استثنائية. لكن الامر غير الطبيعي هو اقتحام قوى طامعة ومعادية من الخارج الاجنبي العدواني للداخل السوري المضطرب متوسّلةً عناصر محلية ارهابية او ممتطية ظهور عناصر خارجية ارهابية وافدة او موفدة بغية تعميق تفجيرات المجتمع التعددي في الداخل وتعميمها على نحوٍ يؤدي الى تشظّي الداخل السوري. ذلك يؤدي بالضرورة الى تجريح الشعور الوطني ناهيك عن توهين الإلتزام بالهوية الجامعة التي تنتظم مختلف مكوّنات المجتمع . ولعل ذلك يؤدي ايضاً الى " تطوير" الشعور بالإستقلال الظرفي في الداخل الى استقلال متواصل عنه.
من له مصلحة في ارتكاب هذه الفعلة الإجرامية ؟
إنها "اسرائيل" ، بالدرجة الاولى ، وقوى خارجية ، طامعة ومعادية، في اميركا واوروبا ، كما قيادات محلية مغامرة داخل بعض مكوّنات المجتمع التعددي ، مدفوعة بأنانية فردية او مصالح مادية ضيقة.
يقتضي لفهم ما جرى ويجري في سوريا وفي غيرها من المجتمعات العربية التنبّه الى ثلاث واقعات اجتماعية وسياسية تارخية ناتئة: اولاها التعددية والتنوع اللذان يطبعان مجتمعاتنا. ثانيتها سؤ ادارة التنوع من طرف الشبكات الحاكمة في الكيانات السياسية العربية المصطنعة. ثالثتها التدخلات الخارجية الدائمة في هذه الكيانات السياسية الهشة على نحوٍ ادى ويؤدي الى بقائها مسرح حروبٍ واضطرابات ومنهَبَة سائغة لدول كبرى طامعة وعدوانية.
هذه الواقعات الثلاث أسهمت بدرجات متفاوتة في تصديع الهوية الجامعة لمكوّنات الداخل السوري كما للداخل في بلدان عربية اخرى. كل ذلك يضع قيادة النظام السياسي ، كما سائر القيادات السياسية والاجتماعية والثقافية في سوريا وغيرها ، امام تحدٍّ ومهمة اساسيين : استعادة الهوية الجامعة كشرط لإستعادة وحدة البلاد الوطنية والسياسية وتوطيدها.
مهة جلل كهذه تستوجب ، بطبيعة الحال ، مواجهة القوى والعوامل المناهضة للهوية الجامعة ولوحدة البلاد الوطنية والسياسية. التنظيمات الإرهابية ، المتأصّلة منها والمصطنعة والعميلة ، هي التحدي الاول والعدو الاخطر الذي يستوجب المقاومة لكونه متداخل بنسيج المجتمع وناشط في مختلف اوساطه وميادينه . غير ان مواجهة هذا العدو لا يجوز ان تبقى عسكرية . فالإرهاب ثقافة قبل ان يتحوّل حركةً او تنظيماً مقاتلاً. وهل يمكن او يجوز مواجهة ثقافة الإرهاب بالبنادق والخنادق فقط ؟
ذلك يستوجب بلا إبطاء معالجة متأنية وجريئة في آن.