نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 28/11/2016
حرائق عالم الإسلام
تمتد الى حارة اليهود...
د. عصام نعمان
منذ خمس سنوات ، وربما اكثر ، تندلع حرائق الحروب والإضطرابات في عالم الإسلام ، من باكستان وأفغانستان في الشرق الى مصر وليبيا وتونس والجزائر في الغرب ، ومن جمهوريات آسيا الوسطى في الشمال الى السودان والصومال في الجنوب ، مروراً بتركيا والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن في الوسط .
الحرائق المتمادية امتدت اخيراً الى حارة اليهود في فلسطين المحتلة ، وهل يشكّل ملايين اليهود الستة في فلسطين اكثر من مجرد حارة بالمقارنة مع تعداد عالم الإسلام الذي يربو على مليار وخمسمئة مليون ؟
حرائق حارة اليهود المشتعلة والمتفاقمة على مدى اسبوع امتدت الى بلدات العـرب وقراهم، ومع ذلك لم يتورّع بعض مسؤولي الكيان الصهيوني العنصري عن اتهام العرب بأنهم يقفون وراء "انتفاضة الحرائق" ، كما اسماها موقع "واينت" التابع لصحيفة "يديعوت احرونوت".
جحيم النيران الممتد من حيفا ومحيطها في الشمال الى القدس الشريف ومحيطها في الجنوب إلتهم اكثر من 20 الف دونم من المساحات الحرجية واتى على آلاف المنازل والمؤسسات والمرافق في حيفا وبعض المستوطنات بالإضافة الى بلدة ام الفحم العربية في المثلث. واذ عزا فريق من المسؤولين الإسرائيليين اسباب الجحيم الناري الى الجفاف وعوامل الطبيعة ، قال فريق آخر اكثر نفوذاً وتأثيراً إنها "مؤامرة كبرى" على "اسرائيل" وإنها بالتالي حرائق متعمَّدة اشعلها اشخاص بدافع قومي مشيرين بذلك الى الفلسطينيين داخل "الخط الاخضر".
هل يعقل ان تكون جماعة واحدة ، اياً كانت هويتها ، قادرة على اشعال آلاف الحرائق على امتداد مساحات بمئات الكيلومترات ؟
وزير تعليم الحقد المعتّق للصهاينة العنصريين ، زعيم حزب "البيت اليهودي" نفتالي بينيت، تجّرأ على الإدعاء بأن " فقط مَن لا ينتمي الى هذه البلاد قادر على احراقها" ! حسناً ، العرب هم اهل البلاد الاصليين ما يُبعد عنهم منطقياً هذه التهمة . لكن بينيت لا يعتبرهم كذلك ، وهو بالتالي يعنيهم دون غيرهم بأنهم وراء الحرائق الهائلة .
بنيامين نتنياهو لمّح هو الآخر الى مسؤولية العرب عن افتعال الحرائق "بهدف الإخلال بالامن" ، معتبراً " ان كل نيران أُضرمت بشكل متعمّد هي ارهاب وبموجب ذلك سيجري التعامل مع الفاعلين" .
نتنياهو وبينيت ومسؤولون آخرون عنصريون بأمتياز استغلوا ردود الفعل الشامتة التي ظهرت في وسائل التواصل الإجتماعي لسوق اتهامات بلا ادلة ضد العرب بأنهم وراء الجحيم الناري الذي عصف بـِ "اسرائيل" . ولعل من اطرف التغريدات التي ظهرت على "تويتر" قول احدهم إن الكارثة التي اصابت اليهود الصهاينة هي إنتقام من الله تعالى لقيامهم بإلغاء آذان المساجد في القدس!
تستدعي الكارثة التي نزلت بالكيان الصهيوني وتسبّبت بأضرار مادية وإقتصادية هائلة التوقف عند حقائق ثلاث بارزة :
الأولى ، ان الجحيم الناري الذي عصف به اخيراً لم يكن الاول في القرن الحادي والعشرين . ففي 2010 شبّ حريق هائل في جبل الكرمل قرب حيفا استمر نحو اسبوع قبل ان يُخمد بمساعدة دول عدّة ، ابرزها الولايات المتحدة وروسيا ، ويتضح من حال الإرباك والاضطراب والفوضى التي سادت "اسرائيل" ان حكومتها لم تستفد من تجارب الماضي اذ بدا مسؤولوها واجهزتها عاجزين عن إخماد الحرائق المتمادية ومضطرين تالياً الى مناشدة الكثير من دول العالم مساعدتهم لإطفائها .
الثانية ، ان الجبهة الداخلية في "اسرائيل" ما زالت تشكّل الخاصرة الرخوة المعرّضة لأخطار جمّة . فرغم مرور نحو عشر سنوات على حربها العدوانية ضد لبنان سنة 2006 ، ونحو سنتين على اشارة قائد المقاومة السيد حسن نصرالله الى وجود خزانات ضخمة في مصفاة حيفا تحتوي مئات الاطنان من الامونيا ، وأن بمقدور المقاومة تفجيرها بسهولة بصاروخٍ موجّه او اكثر فإن حكومة "اسرائيل" وقيادة جيشها ومجالس بلدياتها لم تستطع حتى الآن التوافق على تحديد مكان آمن لنقلها اليه . ذلك كله يرشّح دولة العدوان الى كارثة اعظم بكثير من "انتفاضة الحرائق" التي عصفت بها اخيراً .
الثالثة ، ان "اسرائيل" التي تتباهى بأن لديها اقوى جيش نظامي ، واقوى طيران حربي ، وصواريخ هي الاطول مدى في الشرق الاوسط ما زالت عاجزة عن إطفاء حرائق يعترف معظم مسؤوليها بأنها ناجمة عن عوامل الطبيعة ، فكيف سيكون وضعها عموماً ولا سيما وضع منطقة ثلثها العمراني والصناعي والبشري المعروفة بـِ "غوش دان" الممتدة بين حيفا ويافا على ساحل المتوسط عندما تتعرّض ، بحسب آخر التقديرات الإستراتيجية (صحيفة "جيروزاليم بوست" 2016/11/18 ) في "الحرب المقبلة مع حزب الله الى 1500 -2000 صاروخ في اليوم الواحد مقارنةً بــِ 150 -180 صاروخاً في اليوم خلال حرب 2006 " ؟
اذ تبدو "اسرائيل" عاجزة امام حرائقها في الحاضر وامام كوارث ساحقة ماحقة في حروب المستقبل، فإن العرب والمسلمين على امتداد عالمهم لا يبدون في حال افضل امام الحرائق والحروب وتنظيمات الإرهاب والعنف الاعمى الناشطة في معظم دول غرب آسيا منذ سنوات . ولعل اكثر الامور مدعاة للحزن والحبوط ان استشراء هذه الحرائق والحروب في تلك الدول لا تدفعها ( كما لا تدفع بطبيعة الحال دول كبرى معادية لها) الى التبصّر في ما هي عليه من حال مزرية وبائسة للبحث الجاد عن مناهج ومقاربات وآليات للخروج من ازماتها ، اذ نراها مع ذلك ممعنة بل موغلة في المزيد من الشيء نفسه ، اي في الازمات والحروب التي لا نهاية لها.
هل كثير علينا ، من فرط التشاؤم ، ان نتساءل : هل تعمّ الحرائق العالم برمته بعد ان يمسك دونلد ترامب المتهور بمقاليد السلطة في اقوى دول الكون ؟