نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 14/11/2016
اميركا ترامب
من حال الإنقسام الى إحتمال الإنفصال ؟
د . عصام نعمان
وحدهم انصار دونالد ترامب احتفلوا بفوزه. الآخرون ، ولا سيما الشبان والشابات والناس المهمَلين والمهمّشين ، احتشدوا وتظاهروا في شوارع المدن الكبرى ، من ولاية نيويورك شرقاً الى ولاية كاليفورنيا غرباً ، وندّدوا بإنتخابه وتوعدوه بما هو أشمل وأعظم . ظاهر الحال يشي بأن ثورة شعبية على وشك الإنفجار . لكن واقع الامر لا يشير الى أن كبرى دول العالم تتجه هذه الوجهة.
ما حدث ويحدث في اميركا هو فورة وليس ثورة . فورة غضب عارمة وسخط عمومي ينبع من متاعب وهواجس شرائح كثيرة في مجتمع متعدد على مدى الولايات الخمسين. الفورة لن تتحول الى ثورة ، اقلّه في المستقبل المنظور ، لسبب رئيس : الإنقسام العريض والعميق الذي يلف البلاد والعباد . هيلاري كلينتون اشارت الى هذه الحقيقة في خطبتها الاولى بعد خسارتها . قالت إنها لم تكن تدرك ان الولايات المتحدة منقسمة على نفسها الى هذا الحد المقلق . غريمها دونالد ترامب سبقها الى ادراك هذه الظاهرة ، وانطلق في حملته الإنتخابية مخاطباً الشرائح المهملة والغاضبة وضارباً على اوتار سخطها وخيباتها المريرة.
اذا كان ما تكابده اميركا حالياً فورة غضب فذلك لا يعني انها لن تتطور الى ما هو اعمق واخطر. الإنقسام في اوساط الناس ومناطق البلاد سابق لإنتخابات الرئاسة، وهو يتمحور حول قضايا وتحديات اقتصادية واجتماعية متعددة ابرزها: يقظة العنصرية البيضاء ضد الملوّنين عموماً ؛ اتساع رقعة المهمَلين والمهمّشين نتيجةَ انتقال شركات الصناعة الثقيلة الى خارج البلاد بحثاً عن العمالة الرخيصة ؛ تدفق المهاجرين من اميركا الجنوبية اللاتينية وما يشكّله ذلك من خطر على شريحة الاميركيين البيض والمسيحيين الانجيليين من اصول اوروبية الذين يتحكمون بمفاصل السلطة والاقتصاد والاعلام ؛ ظاهرةً الاسلاموفوبيا" (التخويف بالإسلام والمسلمين وتنمية الحقد عليهما).
هذه العوامل الفاعلة تغذي نوازع انفصالية متأججة لدى المسؤولين والمواطنين في ولايات عدّة كبرى. لعل كاليفورنيا ابرز الولايات المرشحة للإنفصال عن الإتحاد الاميركي ، وقد اعدّت استفتاء لتقرير ذلك في العام 2019. ذلك ان لديها مزايا عدة تشجعها على سلوك هذا السبيل : تعداد سكانها الذي يربو على 39 مليوناً ؛ اقتصادها الذي يفوق اقتصاد فرنسا حجماً ويقلّ قليلاً عن حجم اقتصاد بريطانيا ؛ موقعها الجغرافي الممتد على ساحل المحيط الهادىء الذي يصلها بمختلف دول جنوب شرق آسيا واليابان والصين.
حال الإنقسام والغضب التي تلف مختلف الولايات الاميركية لن تؤدي ، رغم اتساعها ، الى تفكيك الاتحاد الاميركي. فما يجمع بين هذه الولايات من وشائج ومصالح ومنافع اكثر بكثير مما يفرّق بينها . لقد حاولت ولايات الجنوب في القرن التاسع عشر الإنفصال فتسبّبت بحرب أهلية قبل ان تتمكن ولايات الشمال المتضامنة من إلحاق الهزيمة بها. غير ان حال الإنقسام والغضب تُرهص بتحوّلات بنيوية عميقة تتناول مختلف جوانب النظام الاميركي ، ولاسيما منظومته السياسية المتحكمة Establishment التي تكرهها شرائح الشباب المهمَلين والمهمّشين . فما تأثير ذلك على رئاسة ترامب وعلاقات اميركا بدول العالم ؟
الرئيس الاميركي الجديد لاحظ مدى اتساع قاعدة الساخطين على المنظومة السياسية المتحكمة وحجم المشاكل والتحديات التي تواجه رئاسته ، فأوحى بإعتزامه تقليص التدابير الجذرية التي كان اعلن عنها في حملته الإنتخابية ، كمنع المسلمين من دخول البلاد ، وخفّف من وتيرة اتهاماته لادارة اوباما وحزبه الديمقراطي ، واجرى اتصالات مع بعض رؤساء الدول والحكومات التي كان انتقدها ودعاهم الى مقابلته حتى قبل ان يتسلّم سلطاته. فهو يدرك ان لا سبيل الى تحقيق قدْر من التغيير، حتى المحدود ، اذا ما بقيت حال الإنقسام والغضب سائدة. كما يدرك ان انشغاله العميق والمتواصل بقضايا الداخل سيحول دون تحقيق اختراق منتج في علاقات بلاده مع الخارج.
لعل أهم ما يهتّم به العرب والمسلمون في عهد ترامب معرفة مضامين سياساته المرتقبة حيال قضاياهم الرئيسة :
- في مواجهة الإرهاب ، يبدو ترامب اكثر جدّية من اوباما واقل استعداداً للتهاون او التواطؤ مع التنظيمات الإرهابية . فقد ابدى قابلية للتعاون مع الرئيس بشار الأسد في مواجهة "داعش" داخل سوريا لدرجة حملت مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان على اطلاق اشارة ترحيب بذلك.
- في قضية فلسطين ، وصف ترامب النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي بـِ "حرب بلا نهاية" ، معلناً عزمه على "إبرام الصفقة المستحيلة لمصلحة البشرية جمعاء ... إنها الصفقة الأعظم " . لكنه لم يفصح عن مضمونها .
- في علاقات اميركا مع دول الخليج ، يدعو ترامب الى ان تتحمل الدول الخليجية كلفة الحماية الدفاعية التي تتولاها عنها الولايات المتحدة.
- في قضية اللاجئين ، عارض ترامب اقامة منطقة آمنة في شمال سوريا لإستيعابهم ، ودعا دول الخليج الى تحمّل الأعباء المالية اللازمة لغوثهم.
- في قضية الاتفاق النووي، دعا ترامب بادىء الامر الى "تمزيقه" ، ثم توقف عن ذلك معلناً تجاوبه مع اية تعديلات يقرّها الكونغرس الاميركي في هذا المجال.
كل هذه المواقف اعلنها ترامب من موقعه كمرشح للرئاسة ، وهي مجرد توجّهات قد يأخذ ببعضها وقد يتجاهل بعضها الآخر بعد اضطلاعه بسلطاته كرئيس. الامر يتوقف على عاملين مؤثرين : الاول ، مشارب القياديين الذين سيعيّنهم وزراء للخارجية والدفاع والخزانة ، والمستشارين الذين سيتلقى منهم النصائح والأفكار والاقتراحات في المجالات السياسية والاقتصادية. الثاني، ردود فعل الدول الكبرى والدول العربية المعنية بمفاعيل سياساته ، وموازين القوى السائدة في عالم ما بعد باراك اوباما.
ثمة علامات إستفهام كبيرة ومقلقة...