نشرت بجريدة "الخليج" و"البناء"
تاريخ 12/11/2016
ترامب يغيّر اميركا... ولا يغيّر العالم
د. عصام نعمان
لم يفاجيء دونالد ترامب كثيراً من الاميركيين بفوزه بالرئاسة ، لكنه فاجأ الجميع ، اميركيين وغير اميركيين ، بخطابه الاول التصالحي مع الاميركيين وحتى مع العالم. قال إنه سيكون رئيساً للأميركيين جميعاً داعياً مواطنيه ، ديمقراطيين وجمهوريين ، الى التضامن والتعاون من اجل تغيير اميركا لتعود عظمى ، كما لم يبخل على غريمته هيلاري كلينتون بالثناء الجزيل. بإختصار ، ترامب تحدث في خطابه الاول كرئيس وليس كمرشح ، فبدا وكأن الاميركيين بإنتخابهم له قد غيّروه قبل ان يبدأ هو بتغييرهم وتغيير بنية اميركا!
من المنطقي ان يتراجع ترامب عن هجوميته الفاقعة ، ذلك انه ما عاد بحاجة اليها بعدما حقق فوزاً مبيناً ليس على غريمته فحسب بل على المنظومة السياسية Establishment برمتها ، سواء المسيطرة على الحزب الديمقراطي الذي كان حاكماً او الحزب الجمهوري الذي كان معظم اركانه غير راضين عن ترشيحه للرئاسة . فهو من الآن فصاعداً يبتغي تدوير الزوايا مع جميع المعترضين والمعارضين في الداخل كي يطوّر مبادرته من حملة انتخابية الى حركة تجديدية ، كما كان يقول.
ترامب سيتمسك ، اذاً ، بمبدأ تغيير اميركا وسيركّز جهوده في هذا السبيل من دون ان تتضح بعد الخطوط العريضة لاسس التغيير الذي ينادي به. صحيح انه يحظى ، خلافاً لسلفه باراك اوباما ، بتأييد الكونغرس الذي يسيطر عليه حزبه الجمهوري ، لكن ثمة اوساطاً في الحزب (الذي بات حاكماً) لا تشاطره تفكيره ببعض جوانب التغيير الذي ينشده ما يجعله حريصاً على بذل جهدٍ لإستمالتها كي لا تلتقي في معارضته مع خصومه الديمقراطيين.
ولا ينسى ترامب بالتأكيد انه تقاسم مع غريمته السابقة اصوات الناخبين في معظم الولايات وإن كان فاز بمعظم اصوات مندوبيها . الناخبون الذين ايدوا كلينتون فعلوا ذلك ليس إعجاباً بشخصها فقط بل أملاً بتحقيق الوعود الإقتصادية والاجتماعية التي كانت اقتبستها اخيراً من منافسها على ترشيح الحزب الديمقراطي بيرني ساندرز الذي كان وُصف بأنه ديمقراطي اشتراكي . فالواقع ان ثمة شريحة عريضة من الاميركيين تتطالب بتحقيق مطالب اقتصادية واجتماعية واسعة ليس بمقدور ترامب تجاهلها .
ترامب ألزم نفسه بإجراء تغيير جذري في بنية اميركا الإقتصادية والإجتماعية ، لكنه لم يلتزم بتغيير العالم من حولها . اكتفى ، في هذا المجال ، بإطلاق بعض المواقف ذات الدلالة :
- ابدى اعجاباً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتن واستعداداً للتعامل معه.
- دعا الى التفاهم مع الرئيس السوري بشار الأسد بشأن محاربة الإرهاب وعارض إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا لإستيعاب اللاجئين .
- دعا الى تحميل دول الخليج الاعباء المالية المترتبة على حمايتها من طرف الولايات المتحدة.
- وعد بنقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس.
- لم يبدِ معارضة لسياسة الإستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية .
- لم يؤيد مشروع اتفاق التجارة الحرة على شاطئيّ المحيط الاطلسي بين الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة ، هذا المشروع الذي تحمست له كثيراً غريمته هيلاري كلينتون.
- ايّد قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الاوروبي ووعد بدعمها .
- دعا الى "تمزيق" الإتفاق النووي مع ايران .
هذه المواقف لا تشكّل سياسة متكاملة بل مجرد خطوط عريضة او توجهات يفكّر ترامب بإعتمادها في سياسته المقبلة ، وقد تطرأ عليها تعديلات عميقة. هذا مع العلم ان هامش الحركة امام ترامب عالمياً ضيّق لأن لا سلطة له على دول العالم ذات السيادة ، ولاسيما تلك التي تمتلك قوة عسكرية وازنة.
من هنا يمكن القول ان ترامب مهتم ، بل هو ملتزم ، تغيير اميركا وليس تغيير العالم . ذلك ان التغيير يتوقف على امرين : مدى استجابة اطراف الداخل الاميركي لحركة التغيير التي يقودها ترامب ، ومدى استجابة او معارضة الاطراف الدولية المعنية بمفردات او مواقع التغيير التي يريدها الرئيس الاميركي. هذا مع العلم ان ترامب مدّ في خطابه الاول "يد التعاون الى كل امم العالم الراغبة في الوفاق مع الولايات المتحدة". هذه الدعوة الايجابية لن تتطور الى مضمون واضح قبل تسلّم ترامب مقاليد السلطة في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل وتسمية وزراء ادارته الجديدة.
في انتظار ذلك كله ، تنتصب اسئلة كبرى حول العديد من القضايا والتحديات التي تواجه الرئيس الاميركي الجديد ، سواء في الداخل او في الخارج . وهي اسئلة ستحاول دول العالم بمختلف تلاوينها الإسهام في ايجاد اجوبة لها. بوتن كان الاول في افتتاح عملية صناعة الاجوبة بخطاب ألقاه في الكرملين اثناء استقباله السفراء الاجانب في يوم فوز ترامب بالرئاسة ، ضمّنه خطوطاً عريضة لما ستكون عليه مواقف موسكو حيال قضايا دولهم ومشاكلها.
الرئيس الايراني حسن روحاني كان الثاني في وضع النقاط على حروف الاجوبة المرتقبة إذ ذكّر ترامب بأن الإتفاق النووي ليس إتفاقاً بين اميركا وايران بل هو قرارٌ صدّقه مجلس الأمن الدولي وليس في مقدور دولة واحدة ان تعدّله او تلغيه.
بإختصار، قد لا يتغيّر العالم كثيراً بعد انتخاب ترامب ، لكن لا شك في انه قد دخل معه عصراً جديداً.