نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 17/10/2016
الصراع على الموصل
يستبطن صراعاً على العراق وسوريا
د. عصام نعمان
دع خيالك يسرح في لحظة استرخاء. تخيّل ان التصريحات والتهديدات التي يتفّوه بها مسؤولون كبار وصغار في العراق والسعودية وتركيا وغيرها من بلاد العرب والعجم لا تتعلّق بتحرير الموصل بل بتحرير فلسطين . تخيّل ان الجيوش والطائرات والصواريخ والأساطيل التي تأتمر بأوامر هؤلاء المسؤولين الافذاذ اخذت تصبّ حممها وصواعقها على"اسرائيل" في ليلة ليلاء حتى اذا انبلج صباح اليوم التالي اصبحت دولة نتنياهو ومستوطنيه اثراً بعد عين.
تزأر في سمائك مقاتلةٌ اسرائيلية فتنتشلك من احلام اليقظة لتتذكر للتوّ ان ما تتفجر به ألسنة المسؤولين الكبار والصغار ، عرباً واعاجم ، لا يتعلّق بتحرير فلسطين بل بما سيكون عليه الوضع بعد تحرير الموصل ، نعم بعد تحريرها وكأن ذلك أصبح امراً مقضياً.
ابرز المتخوّفين على مصير الموصل "العثمانية" بعد تحريرها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان . اعلن للملأ ان انقرة لن تقبل "تشييع مدينة الموصل السنيّة". وزير خارجيته مولود جاويش اوغلو اكد من الرياض مؤخراً "ضرورة عدم تخيير اهالي الموصل بين داعش والميليشيات الشيعية". لذا لن ينسحب الجيش التركي من بعشيقة العراقية (التي احتلها واقام فيها معسكراً منذ سنوات) ومن سائر انحاء الشمال العراقي عموماً حيث له وجود في نحو 10 مناطق.
وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لم يكن اقل صراحة وحدّة من زميله التركي. حذّر عقب انتهاء اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض مع وزير الخارجية التركي من حصول "كوارث" طائفية في حال مشاركة قوات "الحشد الشيعي" المقرّب من ايران في معارك استعادة مدينة الموصل العراقية ذات الغالبية السنّية من تنظيم "الدولة الإسلامية- داعش".
لكن ، أليس "داعش" سنيّاً ؟
نعم ، انه كذلك . لكنه طراز من السنّية الدينية او السياسية لا يطابق المعايير السعودية . ماذا عن المعايير التركية ؟
إنها ، على ما يبدو ، اكثر مرونة من نظيرتها السعودية بدليل ان انقرة غضّت النظر عن انتقال الآف المقاتلين السلفيين المتطرفين من آسيا الوسطى عبر حدودها الطويلة الى داخل كلٍ من العراق وسوريا.
سؤال آخر يُطرح : ماذا عن شيعية الحشد الشعبي ؟
صحيح ان الحشد الشعبي ائتلافٌٌٌ يضّم في غالبيته تنظيمات شيعية وقليلاً من التنظيمات العراقية السنيّة ، إلاّ ان ما يثير انقرة والرياض ليس شيعيته بل قربه سياسياً من ايران.
يتحصّل من فهم هذه الواقعة ان الدافع الرئيس للصراع على الموصل ليس مذهبياً بقدر ما هو سياسي بالدرجة الاولى . ذلك ان انقرة ، كما الرياض . تخشى ان يؤدي تحرير الموصل بمشاركة قوات "الحشد الشعبي" الى إحداث إختلال في موازين القوى داخل العراق يخدم حلفاء ايران . اكثر من ذلك ، تخشى واشنطن ، قبل انقرة والرياض ، ان يؤدي تحرير الموصل بمشاركة واسعة من "الحشد الشعبي" الى احداث تطورين بالغي الدلالة :
· اختلال في موازين القوى داخل العراق يكون على حساب مصالح اميركا وحلفائها.
· تعطيل مخطط اميركا الرامي الى دفع مقاتلي "داعش" ، بعد تحرير الموصل ، بإتجاه محافظتيّ الرقة ودير الزور السوريتين بغية تكثيف وجودهم فيهما ما يجعلهما عصيتين على الجيش السوري الساعي الى تحريرهما. اهلُ القرار وحلفاؤهم في دمشق يجزمون بأن هناك مخططاً اميركياً يرمي الى تحويل محافظتيّ الرقة ودير الزور الممتدتين من حدود تركيا في الشمال الى حدود الاردن في الجنوب دويلة - اسفين تفصل سوريا عن العراق وبالتالي عن ايران.
هكذا يتضح ان الصراع على الموصل يستبطن في الواقع صراعاً محموماً بين ثلاثـــة محـاور : المحور التركي - السعودي ، والمحور الاميركي- الإسرائيلي والمحور السوري – الإيراني.
المحور الاميركي يضم بطبيعة الحال "اسرائيل". قد ينشأ احياناً تباين تكتيكي بين واشنطن وتل ابيب ، لكن التفاهم الإستراتيجي بينهما قائم وصلب، وغايته في نهاية المطاف إضعاف سوريا والعراق تمهيداً لتفكيكهما الى جمهوريات موز هزيلة تقوم على اساس مذهبي او اثني او قَبَلي.
المحور السوري– الإيراني يضم بطبيعة الحال تنظيمات المقاومة العربية الشعبية المناهضة لـِ "اسرائيل" وللتنظيمات الإسلاموية الإرهابية. وهو يحظى بدعم روسيا السياسي والعسكري في بعض القضايا والمواضيع التي تلتقي عليها اطراف المحور وموسكو.
المحور التركي – السعودي يحظى بدعمٍ من اميركا سافر، ولاسيما في صراع السعودية مع ايران على مستوى عالم الإسلام ، كما يحظى بدعم من اميركا وازن عند حدوث تعارضِ مصالح وبالتالي صراع بين تركيا الاطلسية وروسيا.
في مجمل الصراع الراهن ، بمختلف اطرافه وساحاته ، تبدو الولايات المتحدة محرجة وحائرة . السبب ؟ اقتراب ولاية باراك اوباما من نهايتها وبالتالي نشؤ فترة انتقالية يُفضّل خلالها الرئيس الاميركي عدم الإقدام على اتخاذ قرارات من شأنها إحراج مرشحة حزبه الديمقراطي هيلاري كلينتون او إضعاف حظوظها الإنتخابية . ذلك يؤدي الى اعتماد واشنطن سياسة احتواء الصراعات الناشطة في المنطقة ومحاولة تجميد وتائرها بضعة اشهر بإنتظار تسلّم الرئيسة او الرئيس الاميركي المنتخب سلطاته وتعيين مساعديه وإقرار سياساته في مختلف الميادين.
في المقابل، يسعى المحوران التركي–السعودي والسوري– الإيراني الى انتهاز فترة تقلّص حيوية اهل القرار في واشنطن من اجل تحقيق مكاسب وازنة او محدودة قد يصعب إنجازها بعد اضطلاع الرئيس او الرئيسة الاميركية الجديدة بسلطاتها كاملة .
الصراع ، اذاً ، متفاوت الوتيرة والحرارة ، لكنه مستمر ومرشح للتصعيد.