نشر بجريدة "الخليج" و"البناء"
تاريخ 8/10/2016
الإرهاب نقمة للشعوب ونعمة لأميركا ؟
د. عصام نعمان
اقرّ الكونغرس الاميركي بالإجماع "قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب" (جاستا). القانون يسمح للمواطنين الاميركيين الذين تضرروا جرّاء هجمات 11 ايلول/سبتمبر 2001 التي ذهب ضحيتها نحو 3000 شخص بمقاضاة المملكة العربية السعودية بدعوى مسؤوليتها عن مواطنيها الـ 15 الذين شاركوا في الهجمات.
الرياض اعتبرت "جاستا" انتهاكاً لمبدأ اساسي في القانون الدولي يمنع اقامة الدعاوى على الحكومات ومن شأنه إضعاف الحصانة السياسية للدول بما فيها الولايات المتحدة. للسعودية سبب آخر للإعتراض أهم في نظرها من انتهاك القانون الدولي. انه احتمال ان تحكم المحاكم الاميركية بتعويضات لورثة الضحايا الاميركيين قد تتجاوز بمجموعها مبلغ 6 بلايين/مليارات الدولارات.
الى ذلك ، تتحسب الرياض لما يمكن ان ينجم عن قيامها بالتصدّي لهذه الهجمة الاميركية على حليف لها قديم ، وعلى مستقبل الموجودات والإستثمارات السعودية في الولايات المتحدة.
قبل الخوض في التكلفة المالية للقانون الاميركي المتعسف ، يقتضي التوقف عند مفارقة لافتة . ذلك ان الولايات المتحدة تبدو ، في ظاهر الحال ، هدفاً مرغوباً للإرهاب ومتضرراً كبيراً منه. لكنها ، في الباطن ، مستفيد اول من الإرهاب من طريق قيامها بمقاضاة دول تقول إنها مسؤولة عن مواطنيها المشاركين بعمليات إرهابية ألحقت اضراراً بمواطنين اميركيين . في المقابل ، تشكو الدول التي تتعرض لعمليات ارهابية وتتكبد جراءها خسائر فادحة من انها تبقى مطالَبَة بأن تدفع للمتضررين من غير مواطنيها ، فوق ما تكون قد تكبّدته ، تعويضات باهظة لمجرد ان بعضاً من مواطنيها شارك ، من دون علمها او موافقتها ، في عمليات ارهابية في اراضي الغير ، الولايات المتحدة تحديداً .
ما انتهى اليه قانون "جاستا" يعزز اتهاماً قديماً ضد أميركا بأن سياستها الرئيسة في التعامل مع حلفائها ، ولاسيما الدول العربية المنتجة للنفط ، هي ابتداع وسائل لتدوير عائدات النفط تؤدي ، مباشرةً او مداورةً ، الى تحويلها ودائع في مصارفها ومشاريعها الإستثمارية. ابرز الوسائل المباشرة إيهام الدول المنتجة للنفط انها مهددة في امنها القومي ما يستوجب شراءها اسلحة متطورة مكلفة من الولايات المتحدة. ابرز الوسائل غير المباشرة اتهام دول مليئة مالياً بأنها مسؤولة عن اعمال ارهابية اقترفها مواطنوها على الارض الاميركية الامر الذي يؤدي ، عاجلاً او آجلاً، الى تنفيذ أحكام صادرة عن محاكم اميركية لمصلحة المتضررين وإقتطاعها من الاموال السعودية المودعة مصارف الولايات المتحدة او موظّفة في مشروعاتها الإستثمارية . أليس هذا بالضبط مؤدّى قانون "جاستا" ؟
هكذا يتضح ان الإرهاب نقمة للشعوب ونعمة لأميركا التي تستطيع ، بما لها من قوة سياسية واقتصادية وعسكرية ، ان تُكره دولاً اخرى على تعويض المواطنين الاميركيين خسائرهم لمجرد ان احد مواطني الدولة المدعى عليها ارتكب جرماً ارهابياً على الاراضي الاميركية ولو بغير علم دولته او موافقتها.
هل تنوي السعودية التصدي للولايات المتحدة لدرء تداعيات قانون "جاستا" ؟ وكيف يمكن ان يكون التصدي ؟
يتردد ان الدوائر السياسية القريبة من البيت الأبيض ادركت مخاطر قانون "جاستا" وتداعياته السياسية والقانونية على البلاد ، حكومةً ومواطنين . فالحكومات المتضررة من القانون ، ولاسيما السعودية ، ستجد نفسها مضطرة في الحاضر والمستقبل الى اعادة النظر بعلاقاتها السياسية والإقتصادية معها حفاظاً على مصالحها ومصالح مواطنيها والمستثمرين منهم بخاصة في الأسواق الاميركية . الى ذلك ، فإن احكام القانون نفسه ( جاستا) قد تكون اساساً لقيام متضررين بمقاضاة الولايات المتحدة عن اعمال قام بها مواطنوها خلافاً للقانون . كما ان قانون "جاستا" قد يصبح عدوى تلتقطها دول اخرى ، فتقوم بسنّ قوانين مشابهة لملاحقة الولايات المتحدة وتهديد مصالحها بحجة انها مسؤولة عمّا يقترفه جنودها ومواطنوها من اعمال جرمية تُلحق الأضرار بدول اخرى وبمواطنيها.
يتردد ايضاً ان السعودية قد تهدد بالرد على قانون "جاستا" ببيع بعض موجوداتها واصولها في الولايات المتحدة للأضرار بالإقتصاد الاميركي. هذا الإجراء يبدو غير واقعي. ذلك ان حجم الموجودات السعودية المتداولة والثابتة في الولايات المتحدة لا تتعدى الـ 750 مليار دولار، معظمها اصول ثابتة او طويلة الأجل ما يجعل عملية بيعها او نقلها في فترة وجيزة امراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً.
في ضوء المصاعب والأضرار اللاحقة بكلٍ من الجانبين السعودي والاميركي، يتجه المسؤولون الاميركيون الى القبول بمبدأ اعادة النظر ببعض أحكام قانون "جاستا" بعد الإنتهاء من الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس النصفية وذلك بقصد ادخال تعديلات على القانون من شأنها الحدّ من إلحاق الضرر بالموجودات السعودية في الأسواق الاميركية ، كما في امكانية تعليق العمل بالقانون في اثناء وجود مفاوضات بين المدعين الاميركيين والحكومة السعودية.
من السابق لأوانه تحديد نطاق التعديلات المرتجاة ومداها. غير ان ذلك كله لا يمنع ، بل لعله يُحفز ، الدول المتعاملة مع الولايات المتحدة على التفكير بضمانات لموجوداتها واستثماراتها في المصارف والمشروعات والاسواق الاميركية . هذه الضمانات قد تأخذ شكل معاهدات وتأمينات تحمي المستثمرين من تغوّل السلطات الاميركية ، فلا يبقى الإرهاب نقمة للشعوب وحدها ونعمة للولايات المتحدة يدّر عليها وعلى مواطنيها مليارات الدولارات بصيغة تعويضات تكون فيها اميركا ، من خلال محاكمها وقوانينها ، خصماً وحكماً في آن !