نشرت بجريدة "القدس العربي"و"البناء"
تاريخ 19/9/2016
حرب طويلة تتخللها هدنات قصيرة ...
د. عصام نعمان
ظاهرُ الاتفاق الاميركي – الروسي بشأن سوريا تفاهمٌ حول ايصال المساعدات الإنسانية الى حلب الشرقية ومناطق اخرى محاصرة. باطنه خلاف محتدم حول قضايا ومصالح ومخططات لها اشكالات تنطوي على صدامات حول مصالح وطموحات بين الدولتين العظميين من جهة ودول اقليمية نافذة من جهة اخرى. هذه الحال المعقدة لأزمة سوريا المتمادية تجعل الحرب فيها وعليها حرباً طويلة تتخللها بين الفينة والفينة هدنات قصيرة اقرب ما تكون الى فترات تهدئة لألتقاط الأنفاس وتدوير الزوايا.
يتحصّل من هذا التقويم لحال سوريا ان الحرب فيها وعليها لا تقتصر على الولايات المتحدة وروسيا . ثمة ادوار ومصالح ومطامح ومخططات متداخلة فيها لتركيا واسرائيل والسعودية وايران فضلاً عن فرنسا وبريطانيا والمانيا.
نفط بلاد العرب لا يشكّل اولوية لأميركا. المعروض منه كثير والمخزون اكثر، هذا فضلاً عن احتياط النفط الصخري المتوافر بكثافة لديها. ما يهمها اكثر عائداتُ النفط الضخمة لدى حلفائها الخليجيين وضرورة ايداعه او تثميره في مصارف اميركا واسواقها ومشروعاتها . لذا تراعي واشنطن حلفاءها الخليجيين ، ولا سيما السعودية ، كي يكون بإمكانها الإستفادة من عائدات النفط على الوجه المبين آنفاً . وبما ان للسعودية مصالح وحلفاء في اليمن وسوريا وتشارك في الحرب الدائرة في كلٍ منهما ، فقد بات من الضروري ان تضع واشنطن في حسبانها رأي السعودية ومصالحها عند بحث اي اتفاق مع روسيا او غيرها يتعلق باليمن او سوريا والعراق. هذا من شأنه اطالة أمد التفاوض بين الأطراف المعنيين ، فضلاً عن العقبات والعرقلات التي تعتور تنفيذ الاتفاقات المحتمل التوصل اليها.
تركيا تشارك بصورة مباشرة في حرب سوريا. لها فيها قوات وحلفاء يتعاونون معها على تنفيذ اغراضها وحماية مصالحها. هدفها الرئيس منع الكرد السوريين من السيطرة على المناطق الممتدة من الحسكة في الشرق الى عفرين في الغرب على طول الحدود السورية – التركية وذلك للحؤول دون اقامة دويلة مستقلة بدعمٍ من الكرد الاتراك الذين يقاتلون حكومة انقرة لتحقيق هدف مماثل. فوق ذلك ، تبتغي انقرة اقامة "منطقة آمنة" او عازلة في شمال سوريا بدعوى التحوّط من مخاطر المحاولات الرامية الى انشاء دولة كردية . وجود تركيا في سوريا ودعمها لجبهة "النصرة" التي تعتبرها واشنطن وموسكو إرهابية يُعرقلان التوصل الى اتفاق بينهما بشأن سوريا ، كما يُعرقلان اجراءات تنفيذه بعد إقراره.
لـِ "اسرائيل" مطامع ومخططات ضد سوريا ، وهي تدعم جبهة "النصرة" وحلفائها في اعتداءاتهم الرامية الى توسيع سيطرتهم على جيب في منطقة القنيطرة المحاذية للجولان المحتل. كما تعادي ايران بما هي قوة اقليمية صاعدة وحليفة وداعمة للرئيس بشار الأسد ، وتتعاون مع تركيا وحلفاء السعودية لإزاحته او ، في الاقل ، للحؤول دون بقائه بعد انتهاء المرحلة الإنتقالية . لذا تُشكلّ اعتداءات "اسرائيل" ودعمها العلني للفصائل الإرهابية في سوريا عرقلةً لأي اتفاق لإنهاء الحرب لا يتضمن احكاماً تحمي مصالحها وتدعم مطامعها وفي مقدمها تفكيك البلاد الى جمهوريات موز قائمة على اساس مذهبي او اثني او قبلي.
لـِ "السعودية" كما تركيا اغراض في سوريا ابرزها إخراجها من تحالفها مع ايران وفصائل المقاومة العربية في لبنان وفلسطين . الى ذلك ، للسعودية نفوذ وتأثير في بعض تنظيمات "الإسلام الجهادي" الناشطة في سوريا ناجمان عن تمويل بعضها وتعاونها مع تركيا في استخدامها ضد حكومة الأسد. ولا شك في ان للسعودية نفوذاً ايضاً لدى الولايات المتحدة ، ومن الطبيعي ان تبذل جهوداً لديها للحؤول دون اقرار اية اتفاقات مع روسيا يكون من شأنها تقويضُ مخططها ضد حكومة الأسد . كل ذلك من شأنه تعقيد المفاوضات وعرقلة اتفاقات يمكن ان تتوصل اليها واشنطن وموسكو حيال سوريا.
ايران اصبحت بعد الإتفاق النووي قوة اقليمية وازنة في المنطقة ولها فيها نفوذ ومصالح ومطامح . لعل اهم ما تحرص عليه طهران في هذه المرحلة حماية أمنها القومي بتعزيز التحالف مع اطراف محور المقاومة الذي يضم سوريا وبعض تنظيمات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق. في هذا المجال تجد ايران نفسها في صدام سياسي قد يتطور الى صدام عسكري مع كلٍ من اسرائيل واميركا وتركيا وتنظيمات "الإسلام الجهادي" المتحالفة معها كون الأخيرة تشكّل في سياستها وانشطتها العسكرية تهديداً متفاوت الخطورة لسوريا ولفصائل المقاومة المتحالفة معها. كل هذا من شأنه ان ينعكس ايضاً على المفاوضات كما على تنفيذ اي اتفاقات يمكن التوصل اليها بين اطراف الصراع . ذلك ان طهران قد تجد في المفاوضات او الاتفاقات او طرائق تنفيذها ما يسيء لا الى سوريا وحلفائها فحسب بل اليها ايضاً الامر الذي يحملها على التدخل ، بشكل او بآخر ، لدعم الحلفاء ما يؤدي بدوره الى اطالة امد المفاوضات او تأخير وتيرة تنفيذ الإتفاقات الناجمة عنها.
فوق ذلك ، ثمة عاملان يؤثران سلباً على المفاوضات كما على الإتفاقات ووتيرة تنفيذها :
الاول ، هو وجود خلاف داخل الولايات المتحدة نفسها حول ما يقتضي عمله في سوريا. فوزارة الخارجية اكثر مرونة من وزارة الدفاع (البانتغون) التي تبدو اكثر تشدداً بدليل اعترافها بقصفٍ جوي لموقع قرب مطار دير الزور ادّى الى استشهاد عشرات الجنود السوريين. ثم ان الرئيس اوباما يبدو محرجاً قبل نحو ثلاثة اشهر من انتهاء ولايته وبالتالي يؤثر الإحجام عن اتخاذ موقف قد ينعكس سلباً على مرشحة حزبه في الإنتخابات الرئاسية . كل ذلك يجعل اميركا مراوغة ومتلكئة في المفاوضات وفي تنفيذ الاتفاقات الناجمة عنها.
الثاني ، هو فهم تنظيمات الإرهاب لمصالحها ومدى انعكاس الاتفاقات وتنفيذها على اغراضها ومصالحها . صحيح ان بعضها طيّع ومطيع للدول التي تموّله وتسلّحه، لكن بعضها الآخر يحتفظ بقدْرٍ من الإستقلالية يمكّنه من الإعتراض وربما ايضاً من رفض بعض الإتفاقات والعمل على عرقلة تنفيذها.
كل هذه العوامل والمصالح والاعتبارات سالفة الذكر تُسهم بمقادير متفاوتة في تعقيد المفاوضات بين اطراف الصراع وعرقلة تنفيذ الاتفاقات المعقودة.
هكذا تبقى سوريا ، كما سائر اطراف الصراع ، في حال حربٍ متمادية تتخللها، احياناً، هدنات قصيرة لالتقاط الأنفاس ومعاودة تدوير الزوايا ...