نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخخ 5/9/2016
العراق ... الى اين ؟
د. عصام نعمان
تسنّى لي قبل اسبوع ان اشارك في ندوة نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت حول موضوع "العراق ... الى اين ؟"
شارك في الندوة مفكرون واساتذة جامعيون من أقطار عربية عدة، ناقشوا خلالها ثلاث اوراق بحثية لكلٍ من الدكتور شيرزاد احمد النجار ، والدكتور خالد حمزة المعيني ، والدكتور عبد الحسين شعبان.
ركّز الباحثون في مقاربة الموضوع على الظروف والعوامل والقوى التي يمور بها العراق ، مع اشارات عابرة للظروف والعوامل والصراعات التي تعصف بالمنطقة العربية وتنعكس بتداعياتها على العراق وغيره من بلاد العرب . رجّحوا ان يكون العراق مفتوحاً على مشاهد ستة بعد انتهاء سيطرة "الدولة الإسلامية- داعش" : بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه ، تفكك الدولة وتحوّلها الى كانتونات او فدراليات ، الإنزلاق الى الحرب الأهلية، عودة التدخل الاميركي ، انضمام بعض مناطق البلاد او إلحاقها بتركيا وايران ، واحتمال توافق القوى الدافعة الى التوحيد على صيغة للحوار والتغيير من اجل تشكيل قوة ضغط لبناء دولة ديمقراطية عصرية على اسس الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة والمواطنة بما هي جوهر الهوية الجامعة.
لم أختلف (في مداخلتي) مع الباحثين على واقع كون العراق مفتوحاً على المشاهد الستة سالفة الذكر ، إلاّ انني اختلفت معهم على مقاربتهم الاحادية للموضوع. ذلك انها ركّزت على الظروف والعوامل والقوى الداخلية واغفلت الصراعات المحتدمة في القارة العربية والتدخلات الخارجية وقيامها بتأزيم الاوضاع السياسية والاجتماعية وتحويل الصراعات الى حروب اهلية بل الى حروب اقليمية تشارك فيها دول كبرى.
ارى ان الإجابة عن سؤال "العراق ... الى اين ؟" يتطلّب مقاربةً ترتكز الى محاور "ثلاثة".
المحور الاول ، تشخيص حال الأمة ، بما هي اجتماع سياسي وحضاري ، في التاريخ ولاسيما على الصعيد الإجتماعي او المجتمعي . ذلك ان الأمة تنطوي على تعددية عميقة ، واسعة ومرهقة ، وان السلطة او السلطات التي تعاقبت على حكم شعوبها اخفقت جميعها في ادارة هذا التنوع العربي الزاخر. ولا غلوّ في القول إن وضع الأمة منذ مطلع القرن العشرين اقرب ما يكون الى وضعها عشية غزو الفرنجة او ما يسمّى خطأ الحروب الصليبية . كانت الأمة والمنطقة آنذاك على درجة من التشرذم والتفتت لم تصادف معها عصابات الفرنجة اي مقاومة محسوسة . هكذا مكّن وضعُ الامة المتشرذم آنذاك الفرنجة من المكوث بيسر في بلادنا نحو 200 سنة. كان يجدر بالباحثين ان يتفحّصوا حال الأمة في الماضي ليعقدوا مقارنة ومشابهة مع وضعها في الحاضر تلمّساً لمخارج من ازمتها.
المحور الثاني ، وعي حال الصراع بل الصراعات التي عصفت بالأمة بعد انهيار السلطنة العثمانية وتوزّع ميراثها ، في مرحلة اولى ، مناطقَ نفوذٍ بين دول اوروبـا ( ثم مع اميركا) المنتــصرة في الحـربين العـالميتين الاولى والثانية ، ثــم توزّعها في مرحلة ثانية نتيجةَ زرع الكيان الصهيوني في فلسطيــن وانــدلاع الصراع العربي– الصهيوني الاميركي . مرتكزُ الصراع في هذه المرحلة كان بين اميركا ( وفي حضنها اسرائيل) من جهة وحركة التحرر العربي بقيادة جمال عبد الناصر من جهة اخرى ، وقد انتهت بفك وحدة مصر وسوريا(1961) ثم بهزيمة العرب الشنيعة في حرب 1967. في مرحلة ثالثة ، اندلعت مقاومة عربية بطليعة فلسطينية ضد المحور الصهيوني – الاميركي، لكنها اخفقت في تنظيم مواجهة ناجحة الامر الذي ادى لاحقاً الى قيام الرئيس المصري انور السادات بتوقيع اتفاقات كامب دايفيد ومعاهدة صلح مع الكيان الصهيوني العام 1978. إخراجُ مصر من حومة الصراع شجع العدو على اجتياح لبنان العام 1982 وطرد منظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها. في مرحلة رابعة ، تجدّد الصراع مع قيام ثورة ايران الإسلامية واعلان إلتزامها المبكر محاربة الهيمنة الاميركية على المنطقة وعلى مواجهة الكيان الصهيوني بالتعاون مع قوى المقاومة العربية ، ولاسيما بعد إحتلال اميركا للعراق العام 2003 . في هذه المرحلة التي ما زلنا في معمعتها ، إنهار النظام العربي الإقليمي المترهل مطالعَ العام2011 خلال ما يسمّى "الربيع العربي" ، وهو في الواقع مخاض عميق وشامل استولد مفاعيل وصراعات واسعة ومتمادية ، ليس اقلها ما جرى ويجري في تونس وليبيا ومصر وسوريا ولبنان والعراق واليمن بفعل صعود فصائل " الاسلام الجهادي" وانتهاجها اسلوب العنف الاعمى ، وقيام تعاون واسع بين تنظيمي "داعش " و"جبهة النصرة" من جهة واميركا وتركيا وبعض حكومات الخليج من جهة اخرى ما ادّى الى تهديد وحدة كلٍ من سوريا والعراق واليمن وليبيا وسيطرة فصائل ارهابية متعددة على مناطق واسعة فيها . الملاحظ ان ايّاً من الباحثين لم يعالج ازمة العراق المرتبطة والمتأثرة بحال التعددية العميقة للأمة ونجاح القوى الخارجية في استثمارها لخدمة مطامعها . كما اغفل الباحثون تداعيات وانعكاسات الصراعات الناجمة عن توزّع ميراث السلطنة العثمانية وقيام الكيان الصهيوني ثم قيام ثورة ايران واحتدام الصراع بين اميركا واسرائيل من جهة ، وقوى المقاومة العربية المدعومة من ايران من جهة اخرى. كل ذلك وسط جهود حثيثة تقوم بها السعودية وبعض دول الخليج لحمل سائر دول العرب على اعتبار ايران الخطر الاول الذي يتهددها الامر الذي أضعف قوى المقاومة العربية الملتزمة قضية تحرير فلسطين ، كما شجع قيادات حاكمة في انقرة على محاولة استعادة نفوذ تركيا في المشرق العربي بإعتماد سياسة "عثمانية" توسعية . باختصار ، الباحثون لم يستخلصوا عِبَر الماضي القريب للخروج من حال العراق المتفجر برؤية انقاذية متكاملة.
المحور الثالث ، اعتماد نهج الحوار والإحاطة العقلانية بالتحديات التي تواجه العراق في المرحلة الراهنة وصولاً الى توافق قوى الإصلاح والتغيير على برنامج مرحلي متطور لبناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية على اساس المفاهيم والمرتكزات الآتية :
اولاً ، هوية العراق عربية نابعة من اكتناه وممارسة مشتركات ثقافية ودينية واجتماعية وسياسية في اطار العيش المشترك الساري على مرّ التاريخ.
ثانياً ، العدو المشترك الاول الذي يتهدّد العراق شعباً ودولة ووطناً كما سائر بلاد العرب هو الكيان الصهيوني وحاضنته اميركا العاملان على تفكيك دول المشرق العربي الى جمهوريات موز تقوم على اساس اثني او مذهبي او قبلي.
ثالثاً ، بناء حركة مقاومة وطنية ديمقراطية بالتكامل مع مثيلاتها في الاقطار العربية الاخرى ، ولا سيما سوريا ولبنان وفلسطين والاردن، التي تواجه جميعاً اعداء مشتركين في معمعة الصراع العربي - الصهيوني الاميركي.
رابعاً، ترسيــخ سـلام وتعاون استراتيجيين مع ايران في مواجهة الخطر الصهيوني- الاميركي وفي دعم قوى المقاومة العربية الناشطة ضد الكيان الصهيوني .
خامساً ، اعادة بناء الجيش العراقي وعقيدته القتالية وفق الاسس والمرتكزات سالفة الذكر.
سادساً، تعليق العمل بالدستور الذي تمّ اعداده في ظل الإحتلال الاميركي، وعقد مؤتمر وطني تأسيسي لإعتماد دستور جديد وإقراره في استفتاء شعبي.
سابعاً ، اجراء انتخابات نيابية بإشراف الامم المتحدة ، تنبثق منها حكومة وطنية جامعة لتنفيذ احكام الدستور الجديد والقيام بالإصلاحات اللازمة بعد إلغاء/ او تعديل القوانين والأنظمة والاوامر الصادرة في ظل الإحتلال الاميركي .
ثامناً ، إحتفاظ الاكراد العراقيين في المحافظات التي يتألف منها اقليم كردستان بحكم ذاتي ، والعمل على اعتماد اللامركزية الادارية في سائر مناطق البلاد.
المطلوب للعراق كثير ، والمطلوب منه اكثر. عسى ان يرتفع العراقيون الى مستوى مواجهة ما هو مطلوب لهم ومنهم .