نشرت بجريدة"البخليج" و"البناء"
تاريخ 3/9/2016
دور الغرب في " تهجير" مسيحيّي الشرق
د. عصام نعمان
المسلمون والمسيحيون في بلاد الشام وبلاد الرافدين يهاجرون او يهجّرون بكثافة الى دول الغرب ، الى اوروبا تحديداً ، ومثلهم مسلمو شمال افريقيا. لماذا؟
بعض الباحثين يعزو هذه الظاهرة الى وحشية التنظيمات الإرهابية الناشطة في تلك الأقطار والمناطق . بعضهم الآخر يعزوها الى استبداد الأنظمة الحاكمة وتردي الاوضاع الإقتصادية والإجتماعية البائسة . ولعل الحقيقة تكمن في السببين معاً.
المفارقة أن ظاهرة لافتة في الاقطار والمناطق عينها كانت سبقت بزمنٍ طويل هجرة او تهجير المسلمين الى دول الغرب . إنها ظاهرة "تهجير" المسيحيين . ذلك ان المسيحيين في بلاد الشام كانوا كثرة في مطلع القرن التاسع عشر فاصبحوا قلّة في نهاية القرن العشرين ، ولم تَنشط ضدهم آنذاك تنظيمات ارهابية كما اليوم ، فلماذا هاجروا او هُجّروا ؟
سؤال لم يُطرح مباشرةً من قبل . غير انه سؤال مهم لأنه يستبطن مسألة خطيرة هي دور الغرب في "تهجير" مسيحيي الشرق.
ليس المقصود بالتهجير قيام دول الغرب بحمل المسيحيين عنوةً على مغادرة ديارهم . بل هو التسبّب في هجرتهم من خلال اعتماد سياسات وتدخلات ، وحبك مخططات ومؤامرات ، وتوفير إغراءات ومشوّقات ادت الى تسريع ظاهرة النزوح والإغتراب والإستقرار في مختلف البلدان الاوروبية والاميركية.
يقول المؤرخ الدكتور كمال الصليبي في كتابه "تاريخ لبنان الحديث"(صفحة 17) إن سكان بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) كانوا في معظمهم حتى اواخر القرن الثالث عشر الميلادي من النصارى. ولئن تقلّص الوجود المسيحي تدريجاً بعد ذلك ، فإن كثرةً من المسيحيين كانت ما زالت تسكن بلاد الشام العام 1799 عندما حاصر نابليون بونابرت عكا عقب غزوه مصر.
قد يتبادر الى الذهن ان ضمور الوجود المسيحي كان بسبب الإضطهاد الديني . الحقيقة ان هذا السبب هو أقل الأسباب شأناً في تفسير هذه الظاهرة ، فالإضطهاد لم يتسبّب ، عند وقوعه ، بإيذاء الطوائف المسيحية دون غيرها بل هو أصاب اقليات شتى ، إسلامية في معظمها ، لأسباب سياسية في الدرجة الاولى . يقول الدكتور غسان سلامه في كتابه "المجتمع والدولة في المشرق العربي" (صفحة 100) إن "هناك أرضية قديمة ، ما زالت حية ، يمكن وصفها عند المسيحيين بمزيج من الإعتراف بأن الإسلام خصّهم بمعاملة هي بالنهاية مقبولة ، ومن الأسى أن وضعهم تحوّل مع الإسلام من اكثري الى اقلّي في وجوده".
لماذا اصبح المسيحيون مهددين في وجودهم ؟
كمال الصليبي يعزو ذلك " الى انهم كانوا متهمين بالميل الى الصليبيين. ليسوا كلهم بالطبع . ثمة مسيحيون في مناطق الزاوية والكورة في شمال لبنان قاوموا الصليبيين بحد السيف، كما يحدثنا سركيس ابو زيد في أحد كتبه . غير ان الذين حالفوا الصليبيين من الموارنة لم يتوانوا ، كما يقول الصليبي ، عن "وضع إمكاناتهم العسكرية تحت تصرف الفرنجة" (الصفحة 21 من كتابه). كل ذلك أثار نقمة الايوبيين ثم المماليك عليهم ، فاقتصّوا منهم كما من سائر الاقليات الإسلامية التي أبدت فتوراً في نصرة الدولة السنّية في حربها على الفرنجة.
غسان سلامه يشير ايضاً الى قيام اقلية من المسيحيين في بلاد الشام بمساعدة الصليبيين والمحاربة الى جانبهم . إلا أنه يشدد على عنصر خارجي آخر ستكون له ، منذ العام 1180، آثار مهمة . فقد ارتبط الموارنة "اكليريكياً والى حد ما سياسياً بروما وبالغرب المسيحي ، ولن يفقد الغرب بعدها حلمه باستتباع المسيحيين الشرقيين الآخرين ، في خطى الموارنة ، ولا في الوجود الذاتي في المنطقة" (الصفحة 100 من كتابه).
بالفعل إلتحق ، بعد الموارنة ، مزيد من الاقليات المسيحية بروما : جماعة كبيرة من النساطرة (العام 1551) ، ثم اقلية ارمنية (العام 1742) ، ثم اقلية سريانية (العام 1783) . ويلاحظ سلامه ان هذه الأقليات الملتحقة بروما اضحت بالضرورة اكثر ميلا للغرب ، وبالتالي اضعف ولاءً للسلطة العثمانية القائمة ، كما انها خلقت حالة جديدة من التوتر في الولاء بين المسيحيين انفسهم ، اي بين دعاة الإلتحاق الإكليركي (والى حد ما السياسي) بالغرب ، وبين دعاة مشرقية موالية للعثمانيين كانت انتعشت كثيراً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع بداية حركة التنظيمات والإنتقال العثماني التدريجي من نظام الملل الى نوع من المواطنة الحديثة (الصفحة 102).
غير ان هجرة المسيحيين الى خارج بلاد الشام سبقتها هجرة او نزوح داخل البلاد نفسها لأسباب مسيحية مذهبية . ففي العام 512 ميلادية بطش الملك انسطاس صاحب انطاكية ، بتحريض من تيموتاوس بطريرك القسطنطينية ، بالموارنة سكان سوريا الشمالية بالأصل ، فكانوا طليعة اللاجئين الى جبل لبنان فزعاً من إضطهاد اقرانهم في الدين ( انظر كتاب "تاريخ لبنان العام " ، الجزء الاول "، للدكتور يوسف مزهر ، صفحة 162-164)
هذه الأمثلة لا تنفي ، بالطبع اضطهاد الدولة العثمانية لبعض الأقليات المسيحية. خصوصاً الأرمن ، الأمر الذي تسبب في نزوح اعداد كبيرة منهم الى لبنان . ومع ذلك فالحقيقة الساطعة تبقى ان نزاعات المسيحيين فيما بينهم هي السبب الرئيس لنزوحهم باعداد كبيرة من سوريا الشمالية الى لبنان.
ثم يأتي دور الإرساليات وجماعات التبشير في زرع قيم الغرب الثقافية في قلوب مسيحيي المشرق وصولاً الى زرع مصالحه في الأوساط المشرقية كافة . اكثر من ذلك : لقد لعبت هذه الإرساليات ، ثم القناصل والسفراء الأجانب ، ادواراً مباشرة وصارخة في استتباع مسيحيي بلاد الشام وفريق من مسلميه ايضاً . وليس من شك في ان الإرساليات وجماعات التبشير ومؤسسات التعليم الوافدة ارست في لبنان وغيره من بلاد الشام تقاليد وطرائق في الحياة غربية اسهمت بدورها في اجتذاب الكثير من المسيحيين ليس للتماهي والتعامل مع دول الغرب فحسب بل الهجرة اليها ايضاً والإستقرار فيها.
رغم كل هذه التطورات ، كان المسيحيون ما زالوا كثرة في بلاد الشام عندما حاصر نابليون بونابرت عكا عشية ولادة القرن التاسع عشر . بل لعلهم استمروا كثرة لغاية اندلاع الحرب العالمية الاولى في العام1914 . فلماذا تسارعت هجرتهم في جميع انحاء بلاد الشام منذ منتصف القرن التاسع عشر وصولاً الى الوقت الحاضر حتى بات عددهم الان سدس ما كان عليه في مطلع القرن العشرين؟
لا يملك الدارس إلا أن يشير الى صلة سببية بين واقعة الهجرة المتسارعة وواقعة تزايد التدخل والتأثير الغربي في بلاد الشام وخصوصاً في اوساط المسيحيين.
لقد كانت السلطنة العثمانية تعجّ بالمسيحيين ، من شتى المذاهب ، خلال القرن التاسع عشر ولغاية انهيارها في العام 1918. ومع ان معاملتها للأقوام والأقليات التي خضعت لسيطرتها في آسيا وافريقيا واوروبا لم تخلُ من استبداد واضطهاد ، إلاّ انها بقيت دولة تعددية تشارك عناصرها الإثنية المختلفة ، بقليل او كثير، في حياتها العامة بمختلف وجوهها.
إنه لأمر غريب حقاً ان يكيل مدرّسو الناشئة العربية ، ممن تجرعوا حتى الثمالة ثقافة الغرب والتزموا قيمه وطريقة حياته ، شتى النعوت والأوصاف السيئة للسلطنة العثمانية ، داعين تلامذتهم الى تبني دول اوروبا كنماذج للتعددية والديمقراطية . فهل بإمكان هؤلاء الآن ان يتناسوا الميراث العثماني الذي ما زال عرضة لصراعات دموية متمادية في بلاد العرب ، والبلقان ، وسائر دول اوروبا بسبب الفعل الإستعماري لدول غربية اكدت وقائع التاريخ المعاصر انها لم تكن البتة اكثر تسامحاً ورحمة ورعاية للأقوام والأقليات التي تعيش فيها من "رجل اوروبا المريض" الذي تواطأت دهراً على تفكيكه قبل الإجهاز عليه ؟
ما هي العبرة التي يمكن ان يستخلصها العرب ، مسلمين ومسيحيين ، من هذه الظاهرة التاريخية اللافتة؟
لعل ما استخلصه كمال الصليبي هو العبرة الساطعة : " قلما استفاد بلد صغير ، من تورطه في نزاع دولي . فأيّاً كان الجانب الذي يؤيده ، تُضحّى مصلحته الحقيقية على مذبح المصالح العليا . وكثيراً ما يخفي عنه حلفاؤه اهدافهم البعيدة ، فينساق الى مواقف معقدة يصعب عليه ادراكها او التحكم بها . وفيما تقع شؤونه الداخلية في ورطة النزاع الخارجي ، تفلت هي ايضا من يده ، فيصبح تحت رحمة القوى التي تسود".
انتهى كلام الصليبي... فهل انتهى تورّط قيادات طوائف لبنان ، هذا البلد الصغير ، في نزاعات الدول وانسياقها الى مواقف معقدة يصعب عليها ادراكها والتحكم بها ، وصولاً الى ان تصبح تحت رحمة القوى العظمى ؟