نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 29/8/2016
الكرد الى شرق الفرات... الترك الى غربه
ماذا عن حلب والمستقبل ؟
د. عصام نعمان
في الحرب ، لا تتجلّى الحقيقة في ما يقوله قادة السياسة والعسكر بل في ما يفعلونه. الارضُ أصدق إنباءً من الكتب والألسنة. ما جرى ويجري على ارض الشمال السوري يشي بحقيقةِ ما يريده اطراف الصراع الناشطون : الكرد (وحلفاؤهم) الى شرق نهر الفرات ، والترك (وحلفاؤهم) الى غربه. ماذا عن حلب ؟ ماذا عن مستقبل سوريا ارضاً وشعباً ودولة ؟
ليس ما يقوله اطراف الصراع في هذه الآونة يُعبّر عن حقيقة مخططاتهم واغراضهم ، إنما يؤشّر فقط الى بعض ما يريدونه ميدانياً :
· واشنطن طمأنت انقرة الى ان لا وجود ولا كيان كردياً الى الغرب من الفرات، وان نشاط المقاتلين الاكراد الى الشرق منه يجري توظيفه بمعرفتها وتحت رقابة "مستشاريها العسكريين" في عمليةٍ متدرجة لزحزحة "داعش" عن ريف حلب ومحافظة الرقة.
· انقرة تظاهرت بتصديق ما قاله الاميركيون وانصرفت الى تعزيز الفصائل العسكرية المتحالفة والمتواطئة معها ، ولاسيما "الجيش السوري الحر" ، من اجل مقاتلة "داعش" في ما تبقى له من مواقع في غرب الفرات والحلول محله.
· موسكو لا تمانع في ما يقوم به الاميركيون والاتراك إنما تطالبهم بالتنسيق مع دمشق احتراماً لسيادتها على اراضيها ، كما تطالبهم بفصل الفصائل المتحالفة معهم عن "جبهة فتح الشام" (جبهة "النصرة" سابقاً) والتأكيد على ان الاخيرة تنظيم ارهابي ويجب مقاتلته ودحره.
· طهران ، كما موسكو ، لا تمانع في ما سبق بيانه ويجري تنفيذه على الارض مع التشديد على امرين : وحدة سوريا السياسية والجغرافية ، ووجوب التنسيق مع جيشها في محاربة فصائل الإرهاب والعنف الاعمى.
· بغداد تجاري طهران وموسكو في موقفيهما مما يقوم به الاميركيون والاتراك في شرق الفرات مع حرصٍ على مراعاة واشنطن اكثر من غيرها لضرورة تأمين متطلبات تحرير الموصل من "داعش" بالسرعة الممكنة.
· تل ابيب تتقبّل على مضض ما تفعله واشنطن وانقرة في الشمال السوري ، لكنها لا تتوانى عن القيام سراً بكل ما من شأنه تمديد الحرب في سوريا وعليها بقصد إضعافها وارهاقها وصولاً الى تفكيك وحدتها الى كيانات اثنية ومذهبية وقَبَلية.
في مواكبة ، كما في مواجهة ، هذه التطورات تتمسك دمشق بثوابت استراتيجية وسياسية مُعلَنَة هي وحدة سوريا ارضاً وشعباً ودولة ، ووجوب التنسيق معها في الحرب على الإرهاب وفصائله جميعاً ، والإصرار على إجلائها عن كل المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
هذا ، بإختصار ، ملخص الوضع الميداني بعد التدخل العسكري التركي في الشمال السوري. ماذا عن حلب والتطورات السياسية المحتملة في الحاضر والمستقبل المنظور؟
تشكّل حلب مؤشراً ومعياراً لرؤية اطراف الصراع الى مستقبل سوريا السياسي وما يمكن عمله على الصعيد الديبلوماسي في الأشهر الاربعة القادمة ، اي قبل انتهاء ولاية الرئيس باراك اوباما وتسلّم الرئيس (او الرئيسة) الاميركي المنتخب سلطاته في العشرين من كانون الثاني / يناير 2017.
واشنطن تعي ضغوط الحاجة الى حل سياسي للأزمة السورية وبالتالي استئناف المفاوضات بشأنها في جنيف . يهمّها ، والحالة هذه ، تعزيز الوضع الميداني لحلفائها في "المعارضة السورية المعتدلة" وتتلاقى مع تركيا ، بصورة عامة ، في هذا المجال . ولإحتواء متطلبات استئناف المفاوضات ، تحرص واشنطن على متابعة الضغط على دمشق ميدانياً للحؤول دون تسجيل مكاسب تعزّز مركزها التفاوضي. الإحتمال الأرجح في هذا السياق استمرار تلاقي واشنطن وانقرة والرياض على مناوشة الجيش السوري للحؤول دون تحريره الاحياء الشرقية في حلب الواقعة تحت سيطرة فصائل ارهابية متعددة ، كما عرقلة سيطرته على محيط حلب الشمالي والجنوبي او تحريره محافظة ادلب.
ادارة اوباما تحرص على إلتزام هذا الموقف الى آخر يوم من ولايتها حتى لو ادى الى تأجيج الصراع وعدم استئناف المفاوضات ، ذلك ان للولايات المتحدة استراتيجية ثابتة قوامها منع خصومها (وخصوم اسرائيل) من السيطرة على كل ما تعتبره مناطق ومواقع حساسة ، وفي حال عجزها عن تحقيق ذلك ، التشدد لإبقاء المناطق الحساسة في حال فوضى متمادية . بعبارة اخرى ، ان تكون لها السيطرة وحدها وإلاّ لتكن الفوضى لغيرها.
الى ذلك ، تتمسك واشنطن بموقفٍ اكدته لإسرائيل كما لدول الخليج يقضي بمواجهة تداعيات إتفاقها النووي مع ايران للحؤول دون استقوائها وحلفائها، أيّ سوريا وقوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية . ذلك يكون بمشاغلتها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على نحوٍ يحول دون تطورها الى قوة اقليمية مركزية كبرى. لتحقيق هذا الغرض تدعم واشنطن اقليات اثنية ومذهبية في ايران والعراق وسوريا ولبنان لمناوئة ومناوشة حكوماتها المركزية في اطار مخطط قديم – حديث لتصديع وحدتها السياسية والجغرافية . أليس لافتاً قيام تنظيمات كردية في شمال غرب ايران مؤخراً بتفجير اضطرابات امنية ضد الحكومة المركزية؟ ألم تقم عناصر بالوتشية مناوئة للحكومة في جنوب ايران بإضطرابات مماثلة قبل اشهر؟ أليس لافتاً مقادير الدعم العسكري الذي تقدمه واشنطن جهاراً للتنظيمات الكردية في محافظة الحسكة السورية وآخرها محاولة السيطرة على مركز المحافظة ؟
دمشق وطهران وموسكو تدرك مرامي واشنطن واسرائيل وتحاول معالجتها سياسياً (واحياناً عسكرياً) من خلال التواصل شبه المتواصل القائم بين وزيري الخارجية الروسي والاميركي ، ومن ضمنه لقاء جنيف المحدود النتائج . غير ان إمعان واشنطن في سياستها المتواطئة مع انقرة وبالتالي مع التنظيمات المتعاونة مع "جيش الفتح" (النصرة) تحديداً ، لتدويم حربه في محيط حلب ولدعم سيطرته على محافظة ادلب ومنطقة القلمون (على الحدود السورية اللبنانية) سيحمل ، على الارجح ، اهل القرار في العواصم الثلاث على التفكير جدياً في وجوب تحرير ما تبقّى من حلب ومحافظة ادلب قبل إنتهاء ولاية اوباما تفادياً لصدام مع واشنطن سيكون اكثر احتمالاً وخطورة بعد وصول هيلاري كلينتون الى سدة الرئاسة وارجحية تبنّيها خطة تدعو الى فرض مناطق جوية محظورة على المقاتلات السورية ... والتحذير من إحتمال الإشتباك مع رديفتها القاذفات الروسية ايضاً !