نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 15/8/2016
المقاومة فعل دفاعٍ عن النفس والإنسانية
د. عصام نعمان
بعد بزوغ عصر العولمة والإستقطاب الدولي والتكالب على السلطة واساءة استعمالها ، وصعود ظاهرة الإرهاب والعنف الاعمى وشمولها معظم دول العالم على اختلاف نُظُمها السياسية ، وضلوع الشبكات الحاكمة في عمليات نهب الموارد العامة للشعوب والجماعات واهدار مصادر رزقها ، وتراجع مستلزمات صحتها العامة وضماناتها الإجتماعية ، أضحت الحكومات غير مؤهلة لتؤتمن على حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية . ذلك كله يستوجب نهوض الإنسان ، فرداً وجماعة، محلياً وقطرياً وعالمياً ، الى إمساك قضية حقوقه بيديه في إطار اوسع تضامن ممكن مع شركائه في معاناة مظالم الإستبداد والإفقار والتهميش ومواجهتها.
الى ذلك ، اذا كانت الامة قد اضحت نتيجةَ تلك الفواعل والمفاعيل سابقة الذكر شتاتاً في عقر دارها ، ومكسرَ عصا لكل دخيل طامع ، ومنهبةً لأفراد وشبكات من الداخل والخارج، فإن التصدّي لتحدي إنهاضها ونهوضها يبدأ من الإنسان بعدما اضحى ، بفعل ثورة الإتصالات والمواصلات والبث اللحظوي للمعلومة والمعرفة ، اكثرَ قوة واقتداراً واستعداداً للمشاركة في حركات وحراكات وحملات لمواجهة آثار القعود والركود والإنحطاط . بكلمة ، اصبح اكثرَ استعداداً للمقاومة.
المقاومة نوعان : ميدانية ومدنية.
المقاومة الميدانية هي فعل الدفاع عن النفس والارض والموارد والمصالح بكل الوسائل المتاحة ، بما في ذلك السلاح . المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد المحتل الصهيوني العنصري الإستيطاني الإقتلاعي تجسيدٌ حيّ لمفهوم المقاومة الميدانية .
المقاومة المدنية هي الدفاع السياسي والثقافي والاجتماعي والقانوني عن الذات الوطنية والكرامة الإنسانية في آن ، كما هي مشاركة حميمة بوسائل سلمية في الدفاع عن الارض والموارد والمصالح .
الامن هاجس اسرائيل المزمن . الهيمنة هاجس اميركا المقلق.
التخطيط الاميركي والإسرائيلي تقاطعا وتكاملا ، ولا سيما بعد صعود "الإرهاب الجهادي" ، في مخططات مشتركة، او على الأقل منسّقة ، لتعزيز المصالح العليا وضمانها من خلال تحقيق الأغراض الإستراتيجية الآتية:
اولاً : تفكيك الدول الموحدة Unitary States في المنطقة وتحويلها كيانات اثنية وقبلية ومذهبية متناحرة وذلك بأستثارة الأقليات ودعمها سياسياً وعسكرياً لتبقى في حال اشتباك دائم مع السلطات المركزية ، وتعميم الحروب الاهلية داخل بلدانها على امتداد القارة العربية.
ثانياً : ضمان الهيمنة الاميركية على القارة العربية بتدويم الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين ، وبإقامة سلسلة من القواعد العسكرية في دولٍ عربية ذات مواقع استراتيجية.
ثالثاً : نزع النفط والغاز من ملكية القطاع العام في البلدان العربية المنتجة لهما وذلك بخصخصتهما لتمكين شركات النفط والغاز الاميركية والمتعددة الجنسية من السيطرة عليهما وبالتالي تدوير عائداتهما لتصبّ في الأسواق المالية الاميركية والاوروبية.
لمواجهة هذه المخططات والتحديات يقتضي بناء اوسع جبهات المقاومة الميدانية الوطنية والإقليمية لمواجهتها ، وتوسيع دوائر الإشتباك مع العدو الصهيوني في كل الساحات المتاحة.
الى ذلك ، وازاء تزايد انتهاكات حقوق الإنسان والحريات بسبب ما تمارسه الحكومات المتسلطة من خداع ورياء وإهدار للموارد العامة ، وما تمارسه تنظيمات "الإرهاب الجهادي" من اعتداءات ومجازر ومذابح وتهجير للسكان داخل الأقطار والى خارجها ، بات من الضروري اجتراح مقاربة جديدة للمقاومة المدنية بكل اشكالها تتجاوز الأطر المحلية الى مستويات وصيغٍ عالمية اكثر شمولاً وفاعلية، وتتضمن المبادرات الآتية :
· إنشاء هيئة اهلية عالمية ذات وقفية خاصة لتمويلها وادامتها وذلك بمبادرة من المنظمة العربية لحقوق الإنسان وإتحاد المحامين العرب بالتعاون مع منظمة العفو الدولية او تحت رعايتها بإسم "المؤتمر الأهلي العالمي لحقوق الإنسان " يكون بمثابة برلمان عالمي دائم او "دافوس" حقوقي انساني منافس ومحفّز لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والخاضع لتأثير الحكومات . ينعقد في دورة سنوية واحدة على الأقل واستثنائية عندما تدعو الحاجة ، وتتقدم منه منظمة العفو الدولية بتقريرها السنوي ليكون ورقة عمل لممثلي منظمات حقوق انسان والجمعيات الإنسانية غيرالحكومية في شتى بلدان العالم المشاركين في مناقشته ، كما تعرض فيه تقارير اخرى متخصصة ، وتقوم الامانة العامة للمؤتمر الاهلي العالمي بمتابعة تنفيذ التوصيات الصادرة عنه.
· قيام "المؤتمر الأهلي العالمي لحقوق الإنسان" بإقرار مفهوم متفق عليه للإرهاب مضمونه "استعمال العنف المفرط من قبل حكومات وتنظيمات وأفراد لتحقيق اغراض سياسية" ، والقيام تالياً بوضع تقرير سنوي يتضمن الوقائع والادلة على قيام قادة سياسيين وعسكريين بإرتكاب او المشاركة في اقتراف جرائم الابادة الجماعية ، والجرائم ضد الإنسانية ، وجرائم الحرب ، وجريمة العدوان التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ، واحالته على كلٍّ من الأمين العام للأمم المتحدة والمدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية بغية اتخاذه منطلقاً للتحقيق فيها تمهيداً لملاحقة مَن يثبت ارتكابه جريمة جنائية تدخل في اختصاصها .
· قيام المؤتمر الأهلي العالمي لحقوق الإنسان بالتعاون مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان واتحاد المحامين العرب والمؤتمر العربي العام (بأذرعته الثلاث) بإحياء نموذج محكمة برتراند راسل العالمية وذلك بإنشاء "محكمة الضمير الأهلية العالمية" لمحاكمة القادة السياسيين والعسكريين المتهمين بإرتكاب جنايات موصوفة امتنعت المحكمة الجنائية الدولية عن محاكمتهم لأي سبب كان. وكذلك تنظيم ندوات علمية لإعادة النظر بمفاهيم القانون الدولي الإنساني وعقوباته التي كانت وُضعت غداة الحرب العالمية الثانية وما عادت تفي بمتطلبات مواجهة تحديات الإرهاب والعنف الأعمى .
· تشديد حملة مقاطعة اسرائيل اكاديمياً واقتصادياً من خلال (أ) التواصل مع ادارات الجامعات في شتى بلدان العالم و(ب) تنفيذ المهام الموكولة لمكتب مقاطعة اسرائيل التابع لجامعة الدول العربية والعاطل من العمل وذلك بتنظيم حملات مقاطعة اهلية في جميع الدول العربية ، ووضع تقرير سنوي بالشركات الإسرائيلية ومنتوجاتها كما الشركات المتعاونة معها ، ولاسيما تلك التي تعمل في او تتعاطى مع المستعمرات (المستوطنات) الإسرائيلية في فلسطين المحتلة.
· وضع "سجل شرف سنوي" بأسماء نشطاء وشهداء قضوا دفاعاً عن الأرض (في فلسطين وسواها) وحقوق الإنسان والحريات الديمقراطية. وكذلك وضع "سجل قرَفَ" ، إن صحّ التعبير ، بإسماء مسؤولين في حكومات ومديرين في مؤسسات عامة وهيئات وشركات خاصة انتهكوا بفظاظة حقوق الانسان ومقاطعة اسرائيل وصدرت بحقهم احكام قضائية من المحاكم الوطنية او من محكمة الضمير الاهلية العالمية.
إن حجر الزاوية في بناء المقاومة المدنية ولاسيما المقاومة القانونية ، هو الإنسان ، فرداً وجماعة . فقد ردّدنا كثيراً ان العالم اضحى ، بفضل ثورة الإتصالات والمواصلات ونقل المعلومات ، قرية كونية. هذه الحقيقة، بل هذه النعمة، اضحت في متناول الجميع ، ولو بدرجات متفاوتة . معنى ذلك ان الجميع، مالكين او غير مالكين ، قادرين مادياً او غير قادرين ، مقيمين او مهجرين ، بإستطاعتهم الإفادة من تسهيلات "القرية الكونية" ووسائطها وادواتها وفرصها ، وبمقدورهم تالياً فرض حضورهم على العالم والمشاركة في مجرياته.
كان ديكارت يقول:"انا افكّر ، اذاً انا موجود".
ان التفكير في عصرنا ما عاد وحده كافياً لإثبات الوجود وصون الحرية ، بما هي قيمة معادلة للحياة نفسها. ثمة حاجة وجودية ليكون التفكير مقروناً بالتدبير والتعبير ، بل بالمقاومة ايضاً . المقاومة بما هي إشهار وممارسة حيّة للوجود والحضور والصمود.
انا اقاوم ، اذاً انا موجود.