نشرت بجريدة"القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 8 آب 2016
" ملحمة حلب"
مشهد اقليمي لحرب "باردة" عالمية
د. عصام نعمان
حَشَد "جيش الفتح" ("النصرة" سابقاً) وحلفاؤه قوات كثيفة لفك طوق الجيش السوري وحلفائه المضروب على الاحياء الشرقية المحتلة في حلب. مرشد "الجهاديين" عبد الله المحيسني ومناصروه أطلقوا على المعركة اسم "ملحمة حلب". اعتبروها موقعة فاصلة. كذلك اعتبرها قادة الجيش السوري وحلفائه الذين كسروا هجمات "الجهاديين" المتعاقبة، واكدوا ان انتصارهم سيعيد رسم خريطة المنطقة برمتها . هل بات الحسم في حلب وشيكاً ؟
ليس بهذه السرعة. جميع المؤشرات تشير الى العكس. ذلك ان ما من تطور نوعي في مواقف اطراف الصراع او في مجريات القتال على الارض حَدَث او اوحى بشيء من هذا القبيل. بالعكس ، ثمة ما يشير الى ان الصراعات في المنطقة مديدة وانها تتحوّل بأطّراد الى مشهد اقليمي لحرب باردة عالمية تؤثر فيها او تتأثر بها دول وحكومات تمتد من الولايات المتحدة غرباً الى الصين شرقاً مروراً ببريطانيا وفرنسا والمانيا ، في اوروبا، وتركيا وسوريا والعراق ولبنان والاردن واسرائيل ومصر وصولاً الى افغانستان وباكستان ، في آسيا.
الشواهد في هذا المجال كثيرة :
· الولايات المتحدة ما زالت متمسكة بثنائية راسخة : هزيمة "داعش" بالتزامن مع "تغيير النظام" في دمشق. الناطق بإسم البيت الأبيض جوش ارنست قالها بصراحة منتقداً العسكريين الروس الذين "يولون جزءاً كبيراً من اهتمامهم ومواردهم ووقتهم وطاقتهم لدعم نظام الأسد". الرئيس الاميركي باراك اوباما اكد ما قاله ارنست ، بعد اجتماعه بأركان مجلس الامن القومي والقادة العسكريين في وزارة الدفاع "البنتاغون"، مضيفاً بأنه قلق من تحركات روسيا في سوريا. اوباما لا يبدو مستعداً للتسليم بحسم الصراع في بلاد الشام قبل انتهاء الإنتخابات الرئاسية وتسلّم الرئيس الجديد مقاليد السلطة في 20 كانون الاول/ديسمبر القادم. الى ذلك ، يشير الدعم العسكري والسياسي الاميركي المتواصل لـِ "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية الى ان واشنطن ما زالت متمسكة بمخططها الرامي الى اعطاء الكرد في شمال سوريا الشرقي ، و ربما غيرهم في اجزاء اخرى من البلاد، حكماً ذاتياً الامر الذي يتطلب استمرار الصراع وعدم حسمه في الوقت الحاضر على الأقل.
· روسيا ما زالت متمسكة بثنائية معاكسة للولايات المتحدة : استئصال "داعش" واقرانه من التنظيمات الإرهابية ودعم سوريا في حربها على الإرهاب واستثمار فترة تباطؤ المبادرة الاميركية خلال الإنتخابات الرئاسية لدعم الجيش السوري وحلفائه لتحقيق مكاسب ميدانية يصار الى ترجمتها مكاسبَ سياسية اذا ما جرى استئناف مفاوضات الحل السياسي في جنيف . من الواضح ان دوافع موسكو الى التمسك بثنائيتها المار ذكرها روسية بالدرجة الاولى : منع انتقال عدوى "داعش" الى ملايين مواطنيها المسلمين في الداخل، والحؤول دون استخدام واشنطن للتنظيمات الإرهابية ضدها في الداخل كما في دول آسيا الوسطى ما يحدّ من طموحها الى العودة قطباً دولياً بنفوذ عالمي مؤثر.
· تركيا بعد الإنقلاب الفاشل على رجب طيب اردوغان وانقلابه الشامل على جميع خصومه غيرُها قبلهما. امور كثيرة سيتناولها التغيير في الداخل والخارج ، لكن ليس بينها ما يشير الى تغيير في موقفه من سوريا ، رئيساً ونظاماً. قد يضطر بسبب انهماكه بإعادة ترتيب بيته الداخلي الى التخفيف من دعمه للتنظيمات الاسلاموية المعادية لدمشق، لكن ذلك لن يؤدي بالضرورة الى مصالحة سياسية وايديولوجية مع سوريا . "ملحمة حلب" ما كانت لتندلع لولا دعمه الوازن لــ ِ"جيش الفتح". مشاربه "الاخوانية" ما زالت تتحكم بممارساته السابقة للإنقلاب عليه وانقلابه المضاد . مع ذلك ثمة بين المراقبين مَن يؤمّل بحدوث تغيير ما في سياسته على هذا الصعيد بعد قمته الوشيكة مع فلاديمير بوتن في بطرسبرج.
· اسرائيل ترى مصلحتها في استمرار الصراع وصولاً الى تجزئة سوريا . هي تدرك ان واشنطن ماضية في هذا السبيل . كانت حاولت الضغط على ادارة اوباما لمضاعفة مساعداتها العسكرية السنوية تعويضاً لها عن إقرار الإتفاق النووي مع ايران، لكنها عادت وسلّمت بما جرى تخصيصه لها، معلّلة النفس بأن تعويضها الاجدى لقاء إقرار الإتفاق النووي هو في إلتزام واشنطن مخططها الرامي الى تجزئة سوريا.
· ايران ما زالت مثابرة على دعم سوريا بالإتفاق مع روسيا، وما زالت مراهنة على قدرة الجيش السوري وحلفائه على دحر التنظيمات الإرهابية . لعلها تراهن ايضا على تغيير مقبل في سياسة اردوغان ازاء سوريا بسبب خشيته من نجاح الكرد السوريين ، المدعومين اميركياً ، من السيطرة على شمال سوريا من الحسكة في الشرق الى عفرين في الغرب. ذلك من شأنه خدمة الكرد الثائرين على سلطة انقرة في جنوب تركيا الشرقي. الى ذلك ، تخشى طهران من تحرك الكرد الإيرانيين في شمالها الغربي بدعمٍ من اميركا شأن اقرانهم السوريين. هذا الإحتمال يعزز التقارب بين طهران وانقرة وقد ينعكس ايجاباً على دمشق.
· الصين تزداد نفوراً من الولايات المتحدة بسبب سياسة الاخيرة وممارساتها في بحر الصين. هي تشعر بأن واشنطن ممعنة في سياسة تطويقها و"الحجْر" عليها في الشرق الاقصى. ألمْ تبادر الى زيادة قطع اسطولها في بحر الصين ؟ ألمْ تنشر المزيد من طائراتها المتطورة والبعيدة المدى في قاعدة "غوام" البحرية غير البعيدة عن شواطئها الجنوبية ؟ الى ذلك ، تخشى الصين من تداعيات مشاركة المزيد من مواطنيها المسلمين ذوي الأصول التركية المعروفين بإسم "اغور" في الجيش التركستاني الذي يقاتل في سوريا تحت امرة جبهة "النصرة" ( "جيش الفتح" ). هؤلاء سيعودون يوماً ما الى بلادهم ويباشرون عمليات ارهابية ضد الحكومة والمواطنين.
يتحصّل من مجمل هذه المعطيات والتطورات ان العلاقات بين اميركا وحلفائها الإقليميين من جهة ، وبين روسيا والصين وحلفائهما الاقليميين من جهة اخرى آخذة في التوتر الذي يجد متنفساً له في دول غرب آسيا، اي في سوريا والعراق وتركيا وايران ، وان الصراعات الدائرة في بلاد الشام وبلاد الرافدين هي احد مشاهد الحرب "الباردة" ذات الفصول الساخنة والمتجهة ، على ما يبدو، الى ظواهر اكثر حماوة.
إزاء هذه الحال ، لا حسم سريعاً في حلب ومحيطها في الوقت الحاضر، ذلك ان الصراعات المديدة في العراق وسوريا واليمن وليبيا اصبحت مرتبطة ، في كثير او قليل ، بمستقبل العلاقات بين الدول الاقطاب وممارساتها في الحرب "الباردة" المتزايدة الحماوة وانعكاساتها على حلفائهم الإقليميين المشتبكين في صراعات مديدة دخلت سنتها السادسة.