نشرت بجريدة"البناء"
تاريخ 23/7/2016
في لبنان...
السلطة مصدر الثروة ام العكس ؟
د. عصام نعمان
بعد مضي عقد من الزمن على صدور كتابه "ازمة الإقتصاد اللبناني" ، يعود غالب ابو مصلح الى معالجة الازمة المزمنة بمقاربة مغايرة من خلال مقدمة جديدة لطبعته الثانية المنقحة ، تسنّى لي الإطّلاع عليها. في مقاربته المغايرة يركّز ابو مصلح على دور الطبقة الحاكمة ومتغيرات بنيتها منذ نظام المتصرفية في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر الى "نظام" رفيق الحريري في العقد الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين اللافت في تحليله المعمّق للأزمة المزمنة تلك الصلةُ السببية ، بل العلاقة الجدلية ، بين السياسة والإقتصاد التي تطرح سؤالاً مفتاحياً في لبنان وغيره: هل السلطة مصدر الثروة (او الإثراء ) ام العكس؟
يؤكد ابو مصلح ان السلطات الفرنسية في حكمها لبنان اعتمدت على طبقة التجار وقطاع المال (المصارف) وعلى استرضاء الأرستقراطية الريفية والمدينية الموروثة من العهد العثماني والقادرة على ضبط اهل الريف والمدن. بعد الإستقلال عن فرنسا العام 1943 ، "استمر حكم الطبقة التجارية المالية ، المدعومة بالأرستقراطية الريفية والمدينية رغم تناقضاتها الداخلية ، وبإستتباعات متغيّرة جزئياً للخارج الاوروبي".
تعززت طبقة التجار وارباب المال "بإنضمام برجوازيات فلسطينية وسورية ومصرية الى صفوفها (...) نتيجةَ سقوط فلسطين ونتيجة الإنقلابات العسكرية الراديكالية في المحيط العربي".
قادت طبقة التجار وارباب المال لبنان في مرحلة ما بعد احتلال الصهاينة فلسطين ، مستفيدةً من مقاطعة مرفأ حيفا لمصلحة مرفأ بيروت ، ومن إغلاق قناة السويس عقب العداون الثلاثي على مصر. لكن تطورات الصراع العربي – الإسرائيلي مقرونةً بالصراع الاميركي – السوفياتي سرعان ما حوّلت لبنان "ساحةً للصراعات الإقليمية والدولية وهدفاً للسيطرة والإستتباع من قبل القوى الإقليمية ". في هذا السياق، طلب فريق من الطبقة الحاكمة ، بضوء اخضر من الولايات المتحدة، إدخال الجيش السوري الى البلاد للحؤول دون هزيمة هذه الطبقة امام منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها من القوى الوطنية واليسارية اللبنانية . ازاء امتناع سوريا ، بعد دخول جيشها ، عن إنهاء الوجود والنفوذ الفلسطينيين في لبنان ، قامت اسرائيل ، بتحريض من الولايات المتحدة ، بإجتياح البلاد العام 1982.
احدث الإجتياح الاسرائيلي والتطورات الاقليمية المواكبة واللاحقة تبدلاً كبيراً في دور لبنان التاريخي ، اقتصادياً ، المتخصص في انتاج خدمات يحتاجها محيطه العربي. غير ان التبدّل الاكبر حدث في بنية الطبقة الحاكمة. ذلك ان قادة الميليشيات المتصارعة كانوا وضعوا ايديهم على المرافق والموانيء البرية والبحرية وسخّروها لخدمة مصالحهم ، وفرضوا انفسهم شركاء اساسيين على الطبقة الحاكمة الامر الذي تجلّى في المداولات التي جرت ، برعاية سعودية سورية اميركية ، في الطائف العام 1989وانتجت وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ "اتفاق الطائف".
هذه الاحداث والتطورات الاقليمية والمحلية انتجت ، بحسب ابو مصلح واستنتاجاته الموثّقة ، ثلاثة متغيّرات استراتيجية :
اولها ، "اعادة انتاج النظام السياسي اللبناني على أسوأ مما كان" اذ تمّ تعديل بنية الطبقة الحاكمة بإسقاط الإرستقراطية الريفية والمدينية ، او معظمها ، وارتقاء متزعمي الميليشيات المذهبية ، اي امراء الحرب الاهلية وصانعيها ، الى سدة اصحاب القرار السياسي والاقتصادي والمالي ضمن فئة هي اشبه ما تكون بشبكة سياسية مغلقة ترسم المسارات وتصنع القرارات.
ثانيها ، تحوّل السلطة ، بكل مستوياتها ، الى مصدر للثروة والإثراء لدرجة يحار المرء في توصيف اهل النظام : هل هم رجال اعمال واموال يمارسون السياسة ام رجال سلطة وسياسة يمارسون الاعمال والمقاولات ، ام انهم الفئتان معاً في مزيج فينيقي مركانتيلي عجيب غريب ! لكن فات غالب ابو مصلح ، على ما يبدو ، الاستشهاد بمثال صارخ على راهنية هذا المزيج الغريب. ذلك ان مجلة "فوربس" Forbes كانت ذكرت ان ثروة احد رجال الاعمال كانت ، عشية تعيينه في منصب سياسي نافذ ورفيع ، نحو ملياريّ/بليوني دولار اميركي ، فأضحت ، يوم فَتَحَ ورثته تركته لإحتساب ضريبـة الإنتقال بعد مكوثه سنوات عشر في السلطة ، نحو ستة عشر ملياراً !
ثالثها ، اعتماد ما يُسمّى حكم الميثاق بدلاً من حكم الدستور والقانون . تفسيراتٌ عدّة اعطيت لحكم الميثاق او الميثاقية يتمحور معظمها على اعتماد التوافق والتوازن بين الطوائف الست الكبرى في اطار المناصفة بين المسلمين والمسيحيين . غير ان صيغاً عدّة جرى اعتمادها لترجمة الميثاقية الى توافقات وصفقات مرحلية بين القوى السياسية المتصارعة كان قاسمها المشترك الخروج على احكام الدستور والقانون بدعوى مواجهة ظروف امنية وسياسية استثنائية . في هذا السياق يمكن رصد "الإنجازات" الآتية للشبكة الحاكمة :
· قيـام مجـالس النواب المتعاقبـة بإصـدار قوانيــن عفـو عام في سنوات 1958 و 1969 و 1977 و 1992 و 2005 وذلك بعد كل جولة اقتتال وقتل ونهب وتدمير ، إذ جرى بعدها إسقاط حقوق الضحايا ، وغسل ايدي المجرمين ، وإضفاء حصانة على مجرمي الميليشيات الطائفية ووضعهم فوق المساءلة والمحاسبة.
· اقرار قوانين إنتخابات نيابية مخالفة لأحكام الدستور ولا سيما المادة 7 منه التي تنص على مساواة اللبنانيين امام القانون ، والمادة 27 التي تنص على ان النائب يمثل الامة جمعاء ما يستوجب ان يكون لبنان كله دائرة انتخابية واحدة.
· عدم اجراء الإنتخابات النيابية في مواعيدها القانونية وتمديد ولايتها مرات عدّة بلغت 20 سنة بين 1972 و1992 وذلك بدعوى وجود ظروف امنية استثنائية تحول دون اجرائها . وكذلك عدم انتخاب رئيس الجمهورية بالذريعة نفسها بعد إنتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان سنة 2014.
· عدم إقرار الموازنة العامة للدولة لمدة تزيد عن عشر سنوات وعدم البت بموجب قطع حساب الموازنة لمدة مماثلة.
· زيادة الإنفاق العام خارج اطار الموازنات العامة حتى العام 2005 وخارج اي موازنة او رقابة سابقة ولاحقة على الإنفاق العام حتى يومنا هذا ، الامر الذي ادى الى ان ينتج "التورّم" في الإنفاق الجاري نمواً في الدين العام بلغ منتصفَ هذه السنة نحو 80 مليار / بليون دولار.
هذا بعض ما كشفه غالب ابو مصلح في كتابه القديم – الجديد الذي سيجد طريقه الى النشر قريباً . ولعل العنوان الأفضل الذي يستحقه هو "الإقتصاد السياسي للأزمة اللبنانية"... هذه الازمة المزمنة والمتمادية .