نشرت بجريدة "البناء" والخليج
تاريخ 16/7/2016
حال الأمم : إعادة جدولة الأولويات ؟
د. عصام نعمان
لعل القاسم المشترك الأبرز ، إن لم يكن الوحيد ، بين الأمم والدول في غرب آسيا هو قيامها بإعادة جدولة أولوياتها . ذلك ان اولويات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تبلور معظمها في النصف الثاني من القرن الماضي تقلّصت او تعدّلت او تبدّلت بفعل عوامل واحداث وتحديات شتى لاحقة . ما هي الاولويات البازغة لكبرى امم غرب آسيا ودولها : العرب ، تركيا ، ايران و... اسرائيل ؟
العرب أمة ، لكنهم ليسوا دولة. إنهم في الواقع مجتمع دول ، او بالأحرى تجمّع دول ، ما تتميّز به من فروقات يزيد عمّا بينها من مشتركات . صحيح انه لا يمكن اختزال الأمة في واقعها ومرتجياتها بدولة واحدة او بضع دول ، لكن يبقى ان مصر والسعودية تشكّلان في الوقت الحاضر الدولتين الأكبر والأفعل في عالم العرب والأكثر نفوذاً.
مصر بدّلت اولوياتها بعد اتفاقات "كامب دايفيد" : من بناء قوة ذاتية ، سياسية واقتصادية وعسكرية ، تخدم مصالحها وتسهم في توحيد العرب في وجه دول طامعة في مقدمها اسرائيل ، الى التركيز على تنمية نفسها اقتصادياً واجتماعياً ، وإستنقاذ وحدتها الوطنية ، ومواجهة تنظيمات الإرهاب ولاسيما تلك التي بايعت " الدولة الإسلامية – داعش" ، او تلك التي يدعمها الأخوان المسلمون.
السعودية أعادت جدولة اولوياتها : من التركيز على استثمار مواردها الطبيعية، ولاسيما النفط ، من اجل بناء نفسها ومساعدة دول صديقة بغية بناء قاعدة نفوذ واسعة لخدمة سياستها ومصالحها، الى توظيف قدراتها ونفوذها في وجه ايران بما هي ، في تقديرها ، الخطر والتحدي الاول الذي يواجه العرب ، وفي مقدمهم دول الخليج.
في سياق اولويات مصر والسعودية الجديدة اوالمستجدة فقدت قضية فلسطين مركزيتها في الحياة السياسية العربية واضحت اسرائيل ، مـداورةً وليس مباشرةً، حليفاً ضمنياً في وجه ايران.
تركيا اعادت ترتيب اولوياتها : من اعتبار الاتحاد السوفياتي هو الخطر والتحدي الاول لها ولسائر حليفاتها في حلف شمال الاطلسي "الناتو" الى اعتبار المشرق العربي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، هو المجال الحيوي ، الجيوسياسي والاقتصادي ، لتعزيز اقتصادها القومي ، وتوسيع قدراتها الصناعية والتجارية ، ومحاولة استعادة سيطرتها العثمانية الغابرة.
ايران بدّلت اولوياتها: من ممارسة دور اقليمي ، خلال حكم الشاه ، يخدم مصالحها بالتعاون مع دول الغرب الأطلسي واسرائيل الى بناء دولة اسلامية تركّز على تنمية قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية وبالتالي العسكرية في سياق سياسة معادية للغرب عموماً وللولايات المتحدة واسرائيل خصوصاً.
اسرائيل عدّلت اولوياتها قليلاً تبعاً لتبدّل اولويات اعدائها ونشؤ تحديات جديدة في وجهها : من مواجهة سياسية وعسكرية يومية بالغة الشراسة لشعب فلسطين والدول المساندة له (نسبياً) الى بناء قوة اقليمية كبرى لخدمة اغراضها الجيوسياسية والإقتصادية التوسعية ، واستغلال التنافس والتباعد والعداء بين بعض دول العرب وايران من اجل إنهاء مركزية قضية فلسطين في الحياة السياسية العربية بطريق إعتبار ايران الخطر او التحدي المشترك الذي يواجه عالم العرب "السنّي" كما اسرائيل.
الى ذلك ، ثمة لاعب دولي ذو اقتدار ونفوذ يلعب دوراً اقليمياً نافذاً ومقررِّاً في بعض الاحيان . إنه الولايات المتحدة وحلفها الاطلسي اللذان يدعمان اسرائيل بصورة منهجية ، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ، ويناهضان اعداءها ، شعوباً وحكومات وتنظيمات مقاومة . يبدو ان الولايات المتحدة طوّرت اولوياتها ، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وصعود ايران الإسلامية ، من ممارسة دور المهيمن الى دور الناظم او المنظّم لعلاقات القوى الإقليمية بما يؤمن انتظامها في شبكة مصالحها السياسية والعسكرية.
هذه التبدلات والتعديلات في الأولويات والادوار والممارسات ادت الى نشؤ نزاعات واشتباكات وتحديات جديدة على مدى الساحة الاقليمية من شواطىء البحر المتوسط الى اعالي جبال افغانستان . لعل ابرز التحديات دخول لاعبين جديدين الى الساحة اخذا يلعبان دورين مؤثرين. انهما الإسلام "الجهادي" من جهة والمقاومة العربية من جهة اخرى.
الإسلام "الجهادي " كان موجوداً دائماً تحت ارض الواقع السياسي، لكنه خرج الى سطحها واضوائها بعملية 2001/9/11 المدوّية في الولايات المتحدة . صحيح ان لأجهزة الإستخبارات في الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة يداً ودوراً في نشؤ تنظيم "القاعدة" واخواته ، لكن لا شك في ان مولوده الأكبر والأفعل ، تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش" ، تطور الى كيان مستقل ، يتعاون مع دول وحكومات واجهزة استخبارات متعددة بما يخدم مصالحَ واغراضاً مشتركة ، ولا سيما ما يتعلّق منها بمواجهة قوى ومصالح "الإسلام الشيعي" وحلفائه من جهة ، واغراض اسرائيل ومصالحها من جهة اخرى.
المقاومة العربية مجموعة تنظيمات عسكرية كفاحية نبت بعضها قديماً في وجه الميليشيات الصهيونية التي اغتصبت فلسطين ، ونشأ بعضها الآخر في وجه دول وحكومات مستبدة ممالئة للولايات المتحدة واخرى متهاونة في مواجهة اسرائيل. حزب الله اللبناني هو أقوى تنظيمات المقاومة العربية وهو ايضاً ، كحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي "، لا ينكر تلقّيه دعماً مالياً وعسكرياً من ايران الإسلامية.
الظاهرة اللافتة والمؤثرة في الساحات الإقليمية هو تحوّل كلّ من الإسلام "الجهادي" ، "الدولة الإسلامية داعش تحديداً ، كما المقاومة العربية ، حزب الله تحديداً ، قوةً اقليميةً فاعلة ميدانياً وسياسياً. وعليه ، ما عاد في وسع الولايات المتحدة ولا اية من الدول الاوروبية والاقليمية الكبرى ان تقرر وتنفّذ وحدها امورَ المنطقة ومصالحها ومستقبلها من دون ان تتعاطى وتتعامل ، بشكل او بآخر ، مع هاتين القوتين الإقليميتين الصاعدتين . كل ذلك يؤدي الى تعقيد الصراعات الاقليمية واطالة امدها وتشعّب مفاعيلها ونتائجها وانعكاساتها.
ثمة ظاهرة اخرى لافتة في الصراعات الاقليمية المحتدمة. انها ظاهرة النهوض والفعالية الذاتية وتقدّمها على العوامل الخارجية التي كانت دائماً حاكمة ومقررة ومتقدمة على سائر العوامل والفواعل والمؤثرات.