نشرت بجريدة "البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 10/7/2016
المخلوق الإرهابي تمرّد على الخالق الإستخباري
...ما العمل ؟
د. عصام نعمان
رمضان كان شهراً داعشياً بإمتياز. التنظيم الإرهابي الافعل في عصرنا "أنجز"، خلال ايام وساعات معدودات في دول خمس ، مجازر مدوّية ذهب ضحيتها مئات المدنيين الابرياء ، ومازال يَعِد ويتوعد بالمزيد .
لعل اخطر من المجازر المدوّية إنكشافُ حقيقة ساطعة : المخلوق الإرهابي تمرّد على الخالق الإستخباري . ليس سراً ان التنظيم الام ، "القاعدة" ، خلقته او أسهمت في خلقه ، وكالةُ الإستخبارات المركزية الاميركية C.I.A. واستخدمته بفعالية في حرب افغانستان . منه استولدت لاحقاً اولاداً واحفاداً في شتى الاقطار والامصار، لعل أفعلها وأخطرها : "الدولة الإسلامية-داعش" .
الخالقُ الإستخباري اقرّ واعترف بأن مخلوقه الداعشي خرج عن سيطرته . جيمس كلابر ، منسق اجهزة الإستخبارات الاميركية ، اكدّ خلال شهر شباط/فبراير الماضي امام احدى لجان الكونغرس الاميركي ان "داعش" استخدم مواد كيماوية سامة في سوريا والعراق "بما في ذلك العمل المسبب للقروح بكبريت الخردل" .
قبله اكد الواقعة نفسها مدير وكالة الإستخبارات المركزية الاميركية جون برينان بقوله : "داعش استخدم اسلحة كيماوية وهو قادر على انتاج كميات من الكلورين وغاز الخردل . لدينا عدد من الإشارات التي تدّل على انه استخدم ذخائر كيماوية في ميدان القتال وان بإمكانه تصدير الاسلحة الكيماوية الى الغرب لتحقيق مكاسب مالية". هل يتأخر كلابر وبرينان في الإعتراف يوماً بأن "داعش" اجتذب علماء ذرة مقتدرين وان لديه الدراية والمقدرة على تصنيع سلاح نووي ؟
المخلوق تمرّد على خالقه . اخذ ينافسه لا في الإبتكار فحسب بل في الإنتشار ايضاً . إنه موجود ، حاضر ، بشكل مجموعات ضاربة ، او خلايا نائمة ، او ذئاب منفردة كاسرة على امتداد عالم الإسلام : من اندونيسيا شرقاً الى المغرب وموريتانيا غرباً ، ومن جمهوريات آسيا الوسطى شمالاً الى الصومال الافريقي جنوباً . هو متواجد وفاعل ايضاً في اوروبا وفي اميركا . اهدافه متنوعة : مدنية وعسكرية، دينية و"علمانية" ، بشراً وحجراً . اكثر اهدافه تضرراً هم البشر: الناس الابرياء ، رجالاً ونساء واطفالاً .
بإختصار ، إنه الخطر الاكبر الذي يتهدد المجتمعات لأنه بات سلاحاً في ايدي الدول . أجل ، الدول تتحمل المسؤولية الكبرى . فهي إما خالقة للإرهاب ، او مستخدمة له ، او متغاضية عنه ، او متهاونة في مواجهته .
ما العمل ؟
لعل الجواب الاول ، البديهي ، انه لا يجوز ان تبقى الدول ، ولا سيما الدول الكبرى ، هي الخصم والحكم في مسألة مكافحة الإرهاب . لا يجوز ان تبقى المعاهدات والمواثيق الاممية والدولية في عهدة الدول ، تتولى مباشرةً او مداورةً مسائل حمايتها ومراقبة تنفيذها وملاحقة مخالفيها . الدول ، كبيرها وصغيرها ، ضالعة في خرق وامتهان المعاهدات والمواثيق المتعلقة بحقوق الانسان وبمفاهيم ومواضيع واحكام القانون الدولي الإنساني .
يتساءل البعض : أليست مسألة حماية حقوق الإنسان من صلاحية و مسؤولية الامم المتحدة ؟ الواقع ان الأمم المتحدة ليست هيئة امم وشعوب بل منظمة دول وحكومات . هي ، إن لم تكن متغاضية عن افاعيل الدول وخروقاتها للقانون الدولي الإنساني ، فإنها متهاونة او عاجزة .
آن الاوان لتنتزع الامم والشعوب والمجتمعات والافراد مواثيق القانون الدولي الإنساني وادوات تنفيذ احكامه وموجباته من ايدي الدول والحكومات وتضعها في ايدي الممثلين الحقيقيين للامم والشعوب والمجتمعات والافراد . آن الاوان لوضع وسائل الرصد والرقابة والملاحقة والمحاكمة في ايدي الناس، افراداً وهيئات وجماعات ومجتمعات ممن هي خارج الدول ، اي خارج السلطة ، ومستقلة عنها .
الافراد الاحرار ، الهيئات الاهلية ، منظمات المجتمع المدني المتحررة من قيود السلطة وتأثيرها ، المثقفون الانسانيون الاحرار ، وذوو الضمائر الحيّة والارادات الطيبة في شتى انحاء العالم مدعوون الى التواصل والتلاقي والتباصر والتباحث والتوافق على إقامة منظمة الامم والشعوب، وما يمكن ان يتفرع عنها من مؤسسات واجهزة تُعنى بمسائل الرقابة والمتابعة والملاحقة ، ومحاكم للتقاضي وإحقاق الحق ، ومراكز للتفكير والتدبير ، ومؤسسات للرعاية الإجتماعية .
لعل أهم المبادرات الاهلية على مستوى العالم واكثرها ضرورة وإلحاحاً هي إقامة محكمة الضمير العالمية ، بإستلهام تجربة محكمة برتراند راسل الاهلية والعالمية التي قاضت المسؤولين عن حرب فيتنام ، وذلك لمحاكمة دول وحكومات وحاكمين ومسؤولين عن خرق القانون الدولي الإنساني ومواثيق حقوق الانسان ومعاهدات حماية حقوق النساء والاطفال والمعوّقين .
آن الاوان ليمسك الافراد والشعوب والمستضعفون بقضاياهم بأيديهم من خلال منظمات ومؤسسات وآليات مستقلة عن السلطات واهلها واجهزتها وتأثيرها وبمعزل عنها.
آن الاوان لبزوغ نظام عالمي جديد يوازن بين المجتمعات والحكومات ويحمي الإنسان في جميع الساحات والمستويات ، الانسان بما هو جوهر الوجود والحياة .