نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 27/6/2016
هل خروج بريطانيا من اوروبا
يساعد العرب للخروج من محنتهم ؟
د. عصام نعمان
خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي قد يؤدي الى تفكيك وحدتها السياسية والى انفصال دول اوروبية اخرى عن جسم الإتحاد. خروجها المدوّي هو اهم حدث سياسي واقتصادي في تاريخ اوروبا والغرب بعد الحرب العالمية الثانية . ذلك ان اكبر تكتل اقتصادي وتجاري عالمي خسر الى غير رجعة دولةً كانت الثالثة في ترتيب أعضائه الأقوى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ، كما خسر العالم في اسواق المال والأسهم نحو ترليوني دولار في يوم واحد . انه ، بلا مبالغة ، حدث العصر.
ثمة خاسرون ورابحون من خروج بريطانيا من اوروبا. اكبر الخاسرين اوروبا نفسها. كانت تتجه ، ولو ببطء ، لتصبح ثاني اكبر قطب عالمي ، اقتصادياً وسياسياً ، بعد الولايات المتحدة الاميركية. اكبر الرابحين روسيا التي ستصبح اقوى سياسياً حيال الاتحاد الاوروبي واكثر اقتداراً على تسويق غازها ونفطها في دوله العطشى الى كليهما.
الولايات المتحدة هي ابرز الخاسرين عالمياً لمجرد ان روسيا اصبحت اقوى اوروبياً وصار في وسعها ان تكرّس نفسها ثاني اكبر قطب عالمي بعدها . لهذا السبب إنحازت واشنطن بقوة ، خلال حملة الإستفتاء على خروج بريطانيا او بقائها في اوروبا ، الى جانب دعاة البقاء .
المانيا هي ابرز الخاسرين اوروبياً كونها كبرى أعضاء الاتحاد وقاطرته ومتعهدة انقاذ دوله المفلسة ، كاليونان مثلاً ، من ازماتها المستفحلة . ستزداد من الآن فصاعداً أعباؤها حيال اعضاء الاتحاد المتعثرين اقتصادياً ، ناهيك عن الأعضاء الذين يفكرون بمغادرة الاتحاد في المستقبل المنظور.
تطورات سياسية واقتصادية كبرى تنتظر بريطانيا في الداخل كما تنتظر اوروبا والعالم خلال الأشهر الستة القادمة ، فماذا ينتظر العرب من تداعيات الحدث الاوروبي والعالمي ، وما تأثيره عليهم في حاضر محنتهم المستفحلة ؟
ثمة جوانب ثلاثة لحضور بريطانيا في عالم العرب: اقتصادي وسياسي وعسكري . الجانب الإقتصادي متداخل بعضه مع بُنى الإتحاد الاوروبي كتكتل اقتصادي قارّي وعالمي ، وبعضه الآخر مستقل عنها كونه من موروثات بريطانيا الامبراطورية الذاوية. الخروج من الإتحاد الاوروبي سيؤثر سلباً على الجانب الإقتصادي المتداخل ، لكن بريطانيا ستبقى متعاونة ، اقتصادياً وتجارياً ، مع الاتحاد رغم خروجها منه. والمرجّح ان مجالات المنافسة في عالم العرب لن تكون مؤذية لكِلا الطرفين .
اما الجانب الاقتصادي المستقل ، خصوصاً ما يتعلق منه بعلاقات بريطانيا مع الدول العربية، فلن يتأثر سلباً بوجه عام.
الجانبان السياسي والعسكري متداخلان ، ولن يكون للخروج تأثيرات سلبية على بريطانيا كما على الاتحاد الاوروبي لأن معظم دول اوروبا أعضاء في حلف شمالي الأطلسي "الناتو" وموالية لقائدته التاريخية الولايات المتحدة الاميركية . والملاحظ ان ثمة تعاوناً بين كبرى دول الاتحاد ، المانيا وفرنسا وبريطانيا ، مع الولايات المتحدة في كل ما يخص كبريات قضايا المنطقة العربية ، ولا سيما ما يتعلّق منها بفلسطين والإرهاب والأمن والتطورات ذات الصلة خلال النصف الثاني من القرن العشرين ، والقرن الحالي.
هل بإمكان العرب ان يفيدوا من خروج بريطانيا من اوروبا ؟
يقتضي ، بادىء الامر ، التذكير بأن العرب ليسوا كياناً او جهة واحدة. انهم شتات من دول وتحالفات وتنظيمات متنافرة بل متقاتلة، وان لا مواقف وبالتالي لا سياسات موحدة لديهم حيال مختلف دول العالم . مع ذلك ، يصعب القول إن الباب مسدود في هذا المجال لأن تطورات سياسية واقتصادية عدّة سوف تتناول بريطانيا كما سائر دول اوروبا في المستقبل المنظور وقد تنشأ عنها ظروف وفرص ممكن الإستفادة منها.
في بريطانيا ، قد تتراخى قبضة المحافظين او تزداد تشدداً في توجيه سياسة البلاد. المحافظون الأكثر تطرفاً سيكونون اقل تعاطفاً مع قضايا العرب وخصوصاً ما يتعلق منها بفلسطين. اليساريون، ولاسيما المناهضين منهم للعنصرية والتمييز واللامساواة والقمع ، سيكونون اكثر تعاطفاً مع قضايا العرب عموماً وقضية فلسطين خصوصاً.
في اوروبا ، قد تُقدم دول اخرى على الخروج من الاتحاد. هولندا تبدو مهيئة اكثر من غيرها لإعتماد هذا الخيار، ولعل ايطاليا هي الثانية على الطريق نفسه. الى ذلك، ثمة دول قد لا تغادر الإتحاد ، لكن قوى اليمين المتطرف فيها ، كفرنسا مثلاً، ربما تصل الى السلطة او تصبح اكثر تأثيراً في صناعة القرار الامر الذي يؤدي الى إجراء تعديلات مؤثرة في مواقفها وسياساتها حيال قضايا العرب . إن فوز الجبهة الوطنية اليمينية في الإنتخابات الفرنسية القادمة سيؤدي الى اعتماد سياسات اكثر تشدداً ضد هجرة العرب الى فرنسا وكذلك ضد العرب المقيمين فيها ممن يفتقرون الى جنسيتها. كذلك سيكون لمعسكر اليمين الفرنسي سياسة مغايرة حيال الإسلام عموماً والإسلام السلفي "الجهادي" المتهم بالإرهاب والعنف الأعمى خصوصاً.
من المبكر معرفة انعكاسات خروج بريطانيا على سياسة المانيا حيال قضايا العرب في قابل الايام . هل ستتجه الى تعزيز انتمائها الى حلف "الناتو" فيزداد تعاونها، تالياً ، مع الولايات المتحدة ام انها ستحاول انتهاج سياسة اكثر استقلالاً عن الولايات المتحدة وتعاوناً مع روسيا ما يمكّن بعض العرب ، وليس كلهم ، من استثمار استقلالها النسبي عن اميركا الاطلسية لدعم قضاياهم ؟
ثم هناك ما يجري عند العرب انفسهم وانعكاساته على علاقاتهم السياسية والإقتصادية مع اصدقائهم وخصومهم . هل تتطور (او تنتهي) الحرب في كلٍ من سوريا والعراق وليبيا واليمن على نحوٍ يشجع بريطانيا غير الاوروبية وفرنسا والمانيا على انتهاج سياسة اكثر استقلالاً عن الولايات المتحدة في المنطقة العربية ام يؤدي الى تعزيز إنتمائها الاطلسي وبالتالي تعاونها مع الولايات المتحدة ، اقليمياُ وعالمياُ ؟
بعض العرب يشعر بالإرتياح بل بالشماتة لخروج بريطانيا من اوروبا وارجحية تفككها او صيرورتها اضعف واقل نفوذاً وتأثيراً . انه شعور الثأر من الامبراطورية الشريرة التي رسمت خريطة سايكس- بيكو وقسّمت بلاد العرب ، واحتلت فلسطين وتواطأت مع غيرها على تقسيمها وزرع اسرائيل في ربوعها ، وتعاونت مع اميركا في السيطرة على معظم دول العرب وربطها بالغرب الاطلسي . كل هذا وارد ، لكن خروج بريطانيا من اوروبا لن يُخرج العرب من محنتهم لسبب رئيس: انهم ، قبل غيرهم ، مسؤولون وخصوصاً حكامهم عمّا هم فيه من بؤس ويأس ...