نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ13 /6/2016
الإنسان الفلسطيني ، منفرداً ، يذكّر العالم بمركزية قضيته الحيّة...
د. عصام نعمان
كان بنيامين نتنياهو قد اقنع نفسه بأن "الهبّة" الفلسطينية وأعمال الطعن بالسكاكين والدهس بالسيارات انتهت ، وأن الإسرائيليين بات بإمكانهم العيش والتجوال بسلام ، وانه اصبح في مقدروه توسيع حكومته بضم "صقر" معروف بتصريحاته المتوحشة اسمه افيغدور ليبرمان بعدما انتفت الحاجة (في ظنه) الى إطلاق تهديداتٍ من طراز "تدمير طهران وسد اسوان" و"قتل اسماعيل هنيه"، وان الظروف السياسية المتغيّرة باتت صالحة ليوسّع دائرة بيكار اتصالاته فيذهب الى موسكو ليوهم فلاديمير بوتن بأنه مستعد لتقبّل المبادرة العربية شرط تعديلها بحذف حق العودة والحق بالقدس (فماذا يبقى منها اصلاً!) ومباشرة المساعي مع الرئيس الروسي وغيره من الرؤساء الاجانب والعرب من اجل شرعنة الإحتلال وتحويل اسرائيل جزءاً من نظام اقليمي جديد .
كان نتنياهو يرتع سعيداً في احلامه واوهامه عندما أيقظه منها شابان فلسطينيان جامعيان هما ابناء العم محمد احمد موسى مخامره وخالد محمد موسى مخامره من بلدة يطا جنوبي الخليل ، بتنفيذهما عملية فدائية في قلب تل ابيب ، على مقربة من مقر وزارة الدفاع والهيئة العامة لأركان الجيش الإسرائيلي ، حصيلتها مقتل اربعة صهاينة واصابا 17 آخرين بجروح .
نتنياهو توجّه فور عودته من موسكو الى موقع العملية برفقة وزير الحرب الجديد ليبرمان ووزير الامن الداخلي غلعاد اردان . المسؤولون الثلاثة ادلوا بتصريحات توعدوا فيها الفلسطينيين بالرد بمنتهى الحزم والصرامة . تصريحاتهم شكّلت بواكير ردات الفعل من شتى الاوساط الصهيونية . بعضها كان مجرد تهديدات عالية النبرة وبعضها الآخر تضمن اسئلة بالغة الحساسية والحيرة والخطورة ، اهمها :
· كيف نجح الفدائيان في الإنتقال من منطقة جبل الخليل الى قلب تل ابيب؟
· كيف تمكّنا من الحصول على اسلحة ؟
· اذا كانا قد نجحا في تصنيع سلاحٍ من نوع كارلو غوستاف ، فهل سيكون في مقدورهما ، مع غيرهما ، صنع صواريخ اشد فتكاً ؟
· كيف تمكّنا من جمع معلومات استخبارية قبل تنفيذ الهجوم في مطعم ماكس برنار بمنطقة سارونا الواقعة مقابل "هكرياه" حيث توجد وزارة الدفاع وهيئة الاركان العامة ؟
· صحيح انهما قاما بالعملية بمفردهما ، لكن ليس من المستبعد ان يكون ثمة فرد او اكثر او جماعة تقف وراءهما ، فهل في مقدور اجهزة الإستخبارات كشف هؤلاء ؟
· اذا كانت ثمة جماعة تقف وراءهما ، فهل تكون عملية تل ابيب مؤشراً الى إنتقال المقاومة الفلسطينية المسلحة من قطاع غزة الى الضفة الغربية ؟
· ما التداعيات السياسية لهذه العملية الفدائية البالغة الجرأة والإتقان ؟ ما انعكاساتها على تركيبة الحكومة ؟ وما التدابير الصارمة التي توعّد نتنياهو الفلسطينيين بإعتمادها ؟
التدابير العسكرية لم يتأخر الجيش وقوى الامن الداخلي في اتخاذها : احتلال بلدة يطا وعزلها عن محيطها . اعتقال اقارب الفدائيين ومباشرة عملية تحقيق شاملة. إلغاء مفعول اكثر من 80 الف تصريح دخول للعمل في اسرائيل . تكثيف الوجود العسكري والامني في كل انحاء الضفة الغربية حتى بدت وكأن اسرائيل اعادت احتلالها من جديد .
التدابير السياسية لم تتضح بعد . لكن تصريحات بعض الوزراء والحاخامين تؤشر الى تداعيات واحتمالات بالغة الخطورة :
· وزراء وحاخامون طالبوا بإحتلال المنطقة "ج" من الضفة الغربية واعلان ضمها الى اسرائيل رسمياً .
· وزراء وحاخامون وسياسيون واعلاميون دعوا الى طرد عرب الضفة الغربية العاملين داخل اسرائيل او المقيمين فيها الى غير رجعة .
· آخرون اعلنوا وجوب التفكير جدّياً بترحيل فلسطينيي 1948 الذين ما زالوا مقيمين في بيوتهم واملاكهم داخل اسرائيل رغم حرب الإحتلال والتهجير .
· ثبوت رسوخ الروح الوطنية والتعلق بالارض والحقوق لدى الشعب الفلسطيني عموماً والشباب الفلسطيني خصوصاً الامر الذي ينبئ بمزيد من اعمال المقاومة في قابل الايام .
· اخفاق اجهزة الإستخبارات كلها في الكشف المسبق عن العمليات الفدائية التي يقوم به الفلسطينيون ، شبّاناً وشابات .
· ثبوت انطواء بعض العمليات على تقنيات معقدة الامر الذي يدل على وجود كفاءات علمية محترفة داخل الجسم الفلسطيني سينعكس بالضرورة ايجاباً على تصنيع سلاح متطور في الحاضر والمستقبل .
كل هذه التداعيات والإحتمالات مهمة وخطيرة . لكن الاهم منها ، في رأي كثيرين ، معانيها ودلالاتها في الجانب الفلسطيني وفي الجانب العربي والإسلامي . فقد بات واضحاً ان لدى شعب فلسطين في الوطن المحتل كما في الشتات وعياً عميقاً بأبعاد القضية الفلسطينية واستحقاقاتها و بالتحديات التي تواجهها ، وبالعوامل والظروف التي ادت الى إنحسار مركزيتها في حياة العرب والمسلمين ، وبالتالي ازدياد جهود اسرائيل ، قياداتٍ ومستوطنين ، لإستكمال اغراض المشروع الصهيوني الإستيطاني الإقتلاعي ، ونشؤ قضايا "مركزية" اخرى في المنطقة تبعاً لتفاقم الهجمات والضغوط التي تستهدف اقطاراً عربية ذات تأثيرات استراتيجية عميقة على فلسطين ، شعباً وقضية ، كسوريا ولبنان والعراق ومصر .
القضية "المركزية" المستجدة الاكثر خطورة وتهديداً للقضية المركزية الام ، فلسطين ، هي ايران من حيث سعي اسرائيل مع بعض دول الخليج الى جعلها الخطر الاول الذي يتهدد الجميع .
لئن كانت القوى الوطنية الحيّة بين الفلسطينيين والعرب تعي خطورة التحدي الماثل وانعكاساته على مركزية قضية فلسطين في الحياة العربية والإسلامية ، إلاّ ان الشباب الفلسطيني يبدو الاكثر وعياً وفعالية في مجال المواجهة . فالفلسطينيون ، شبّاناً وشابات ، بادروا ، إفرادياً ، الى مواجهة الإستعمار الإستيطاني الصهيوني باجسادهم العارية وبما تيسّر لهم من ادوات المطبخ واعمالهم اليدوية وضربوا بها واصابوا الجنود والشرطة والمستوطنين ، واطلقوا ظاهرة مقاومة فريدة في عالم العرب عمادها الانسان الفرد القادر على الإبداع والفعل بفضل الوعي والتصميم وتكنولوجيا السلاح وثورة الإتصالات والانترنت المتطورة .
اجل ، بادر الإنسان الفرد الفلسطيني ، ذاتياً ، الى العمل والمقاومة ضد الصهاينة ، افراداً ومؤسسات ، ما يؤدي الى إبقاء القضية حيّة ، بل الى إحياء مركزيتها في ضمائر الفلسطينيين اولاً والعرب والعالم تالياً .
هذه الظاهرة ذات الفرادة الثورية ستتحول بالضرورة ظاهرةً جماعية، وستنتقل عدواها الى فصائل المقاومة الفلسطينية الهاجعة والاخرى المتربصة والى مثيلاتها في عالم العرب ما يحمل الشباب عموماً وشباب فلسطين خصوصاً على إبتداع صيغةٍ جماعية للمقاومة اكثر تخطيطاً ومراساً ونَفَساً طويلاً وعزيمة وفعالية.