نشرت بجريدة "القدس العربي"و"البناء"
تاريخ 30/5/2016
لماذا التبكير في طرح مسودة الدستور السوري الجديد ؟
د. عصام نعمان
تحتدم في أجهزة الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي سجالاتٌ ومناقشات حول مسودة الدستور السوري الجديد. المسودة سرّبتها موسكو وبدا للملأ انها من صنعها. لماذا التبكير في طرح مسودة الدستور وإثارة كل هذا الضجيج ؟
صحيح ان قرار مجلس الأمن 2254 اشار الى شهر آب/ اغسطس المقبل كموعد لإنجاز مسودة دستور جديد لسوريا ، لكنه لم يُشر الى احتمال طرحه للمناقشة (والمساجلة) اعتباراً من اواخر الشهر الحالي.
لافتٌ في هذا المجال تصريح لوزير الخارجية الاميركي جون كيري اطلقه في موسكو في 25 آذار/مارس الماضي بقوله : "اتفقنا (والجانب الروسي) على جدول زمني لتأسيس اطار عمل للإنتقال السياسي فضلاً عن مسودة دستور ، ونهدف الى ان ينجز كلاهما بحلول شهر آب". من الواضح ان كيري لم يشر الى امكانية طرحه للمناقشة قبل شهرين من موعد إنجازه. فلماذا التبكير في تسريبه وكأن المقصود استثارة ردود فعل بعينها من اطراف الصراع؟
ما نقله موقع "بلومبيرغ" عن مصادر غربية وروسية مطلعَ نيسان/ابريل الماضي ربما يجيب جزئياً عن السؤال آنف الذكر بقوله "إن واشنطن تعمل مع موسكو على مسودة دستور جديد لسوريا وذلك من ضمن اتفاق كانت توصلت اليه مجموعة الدعم الدولية لسوريا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2015 يقضي بتشكيل حكومة انتقالية ذات صدقية وشاملة وغير طائفية تحدد جدولاً زمنياً لكتابة دستور جديد ، وان تُجري انتخابات حرة وعادلة بإشراف الامم المتحدة خلال 18 شهراً ".
يدعم هذا التسريب ما تردد عن توصل واشنطن وموسكو الى اتفاق على صوغ دستور جديد لسوريا ، وعلى تشكيل حكومة انتقالية تحدد جدولاً زمنياً "لكتابة دستور جديد" ، بمعنى ان تتخذ الحكومة الإنتقالية مسودة الدستور المقدّمة اليها من واشنطن وموسكو كأساس للمناقشة ، وتُجري عليها ما يتوافق عليه اطرافها من تعديلات ويضعوا مسودة الدستور تالياً في صيغة نهائية لعرضها على استفتاء شعبي عام.
يبدو ان المنهجية التي اتفقت عليها واشنطن وموسكو عطّلها الأطراف السوريون المتفاوضون في جنيف ، ولاسيما ما يسمى وفد الرياض الذي رفض مبدأ الحكومة الإنتقالية واصرّ على "هيئة انتقالية" لا يكون فيها للرئيس بشار الأسد دور، بل لا يكون هو نفسه في السلطة !
إزاء تعطيل المفاوضات والعودة الى القتال وجنوح بعض التنظيمات السورية المصنّفة "معتدلة" الى صف "جبهة النصرة" المصنّفة إرهابية والتي تواصل القتال ضد الجيش السوري ، فقد وجدت موسكو ، بالتفاهم مع واشنطن ، ان الكشف عن مسودة الدستور التي كانت اعدّتها ربما تطمئن الاطراف السورية المعادية لحكومة دمشق وتشجعها على وقف القتال والعودة الى المفاوضات كون المسودة المذكورة انطوت على صيغة شبه كونفدرالية للدولة ، ترضي المعارضة ولا ترضي دمشق. اللافت ان المعارضة لم ترفض المسودة الروسية ، لكن دمشق سارعت الى نفي عرض اي مسودة دستور عليها ، رافضةً اي دستور لا يكون من صنع السوريين انفسهم . وكانت اوساط سورية غير رسمية قد استبقت النفي الرسمي بتسريب تعديلات جذرية أُدخلت على المسودة تجعل من اتخاذها اساساً للمناقشة بين الاطراف المتفاوضين امراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً .
مهما يكن الأمر ، فقد اصبح واضحاً ان الولايات المتحدة ، وليس فقط المعارضة السورية الموالية للرياض وانقرة ، هي مَن عطّل المفاوضات. ذلك ان واشنطن لم تكتم دعمها العسكري لـِ "قوات سوريا الديمقراطية" الكردية من اجل طرد "داعش" من شمالي محافظة الرقة التي يسيطر عليها ، رافضةً التعاون مع الحكومة السورية في هذا السبيل. ذلك يطمئن ، في ظنّها ، حكومتيّ الرياض وانقرة اللتين ما زالتا ترغبان في إقصاء الأسد قبل معاودة المفاوضات او ، في الاقل ، قبل التوصل الى اتفاق حول الدستور وبالتالي إجراء الإنتخابات .
لكن الإصرار على اقصاء الأسد يؤدي الى إطالة امد الحرب في جميع المناطق السورية التي لـ"داعش" و"النصرة" فيها وجود ونشاط. فدمشق وحلفاؤها في محور المقاومة يفسرون إصرار الولايات المتحدة على إشراك الأكراد السوريين في مقاتلة "داعش" بشرق سوريا وشمالها ودعمهم بقوات برية اميركية خاصة بأنه جزء من مخطط يرمي الى تكريس سيطرتهم على اراضٍ في شمال سوريا الشرقي تمهيداً لإقامة دويلة خاصةٍ بهم هناك او ، في الأقل، إخضاع تلك المنطقة الى صيغة حكم ذاتي شبيهة بما هو عليه الوضع في اقليم كردستان العراق.
ثمة سبب آخر لإطالة امد الحرب هو إقتناع حكومة دمشق بأن لا سبيل الى معاودة المفاوضات مع خصومها في المعارضة طالما تنظيميّ "داعش" و"النصرة" ومن يواليهما ينشطون ويعيثون في الارض فساداً ، فيضعفون قدرة سوريا على مواجهة العدو الاساس وهو "اسرائيل" ، كما يفسحون في المجال امام الولايات المتحدة لتنفيذ مخططات تمسّ بوحدة سوريا وسيادتها . كل ذلك سيدفع الحكومة السورية الى تفعيل الحرب على تنظيمات الإرهاب الاعمى وتركيز الجهود الرامية لتنظيف البلاد من وجودها وفعالياتها كشرط لإستتباب الهدؤ والأمن والأمان ولمباشرة مفاوضات مجدية مع اطراف المعارضة السورية .
يتأسس على ذلك ان لا مجال لإستئناف المفاوضات بين حكومة دمشق وخصومها في المستقبل القريب طالما هي منهمكة في عمليات واسعة لتحرير مناطق البلاد من تنظيمات الإرهاب الأعمى ومناصريها من المسلحين المنضوين تحت لوائها والمنخرطين في اجهزتها ووحداتها المقاتلة.
اجل ، لا جدوى من المفاوضات قبل إجلاء هؤلاء جميعاً عن ارض سوريا وتوفير الامن والامان للسوريين جميعاً.