نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 16/5/2016
في "إصلاح" الشرق الاوسط او تخريبه :
ما لا تستطيعه اميركا يستطيعه حلفاؤها ...
د. عصام نعمان
جيمس كلابر هو مدير الإستخبارات الوطنية الاميركية . يشرف ، بحكم منصبه ، على 17 جهازاً استخبارياً في الولايات المتحدة ما يجعله ابرز رموز "الايستبليشمانت" Establishment او المؤسسة الحاكمة التي تدير البلاد أثناء فترة انتقال السلطة من الرئيس الحالي باراك اوباما الى الرئيس المقبل (هيلاري كلينتون الديمقراطية او دونالد ترامب الجمهوري).
الفترة الإنتقالية تبدأ ، سياسياً ، مع إنعقاد مؤتمري الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري خلال شهر حزيران/يونيو القادم لإختيار مرشح كلٍّ منهما للرئاسة وتنتهي ، عملياً ، في 20 كانون الثاني /يناير القادم، يوم يتسلّم الرئيس المنتخب سلطاته الدستورية . لكن الرئيس الجديد يلزمه نحو ثلاثة اشهر للإحاطة بأوضاع الادارة ومتطلباتها التنظيمية والسياسية ، وتعيين كبار مساعديه من وزراء ومستشارين وسفراء ومديرين، ووضع الترتيبات اللازمة لتنفيذ سياساته وخططه في مختلف الميادين. خلال الفترة الإنتقالية يكون الحكم ، عملياً ، في عهدة "الايستبليشمانت"، ايّ في عهدة طليعها مدير الإستخبارات الوطنية جيمس كلابر.
لأن له هذا القدْر من السلطة والنفوذ ، اجرى معه قبل ايام الكاتب الصحافي المرموق ديفيد اغناطيوس مقابلة في صحيفة "ذي واشنطن بوست" كشف خلالها الخطوط العريضة لما ستكون عليه اوضاع العالم ، ولا سيما الشرق الاوسط ، غداةَ تسلّم الرئيس الاميركي الجديد سلطاته. لعل أهم ما كشفه كلابر يتعلّق بحاضر تنظيم "الدولة الإسلامية- داعش" ومستقبله ودور الولايات المتحدة حياله كما حيال القضايا والتحديات الاخرى.
في المقابلة اكّد كلابر ان "داعش" سيفقد مدينة الموصل. متى ؟ قال "إن ذلك سيأخذ وقتاً طويلاً ولن يتمّ خلال ادارة اوباما". اكثر من ذلك ، قدّر انه بعد هزيمة "المتطرفين" في العراق وسوريا ، "ستظل مشاكل الشرق الاوسط قائمة ، وان "داعش" فقد كثيراً من الارض والمقاتلين ، إلاّ ان الصراع العام مع "المتطرفين" سيستغرق عشرات السنين".
حرص كلابر على الدفاع عن رئيسه اوباما . قال إنه يتفق معه في رؤيته بأن الولايات المتحدة لا تستطيع وحدها إصلاح الاوضاع في الشرق الاوسط. ألا يعني هذا الكلام ، ضمناً ، انها لا تستطيع وحدها ايضاً تخريبها؟ لم يُشر كلابر الى مَن يستطيع منافسة اميركا في "إصلاح" أوضاع الشرق الاوسط او التعاون معها في هذا السبيل. كذلك لم يُشر الى مَن يستطيع تخريبها بالتعاون معها او ، ربما ، بالرغم منها. لم يفعل لأن كثيرين ، ابرزهن هيلاري كلينتون ، عضو مجلس الشيوخ ووزيرة الخارجية سابقاً ، كانت كشفت ان الولايات المتحدة "خلقت" تنظيم "القاعدة" وموّلته ودرّبت عناصره لمقاتلة القوات السوفياتية اثناء وجودها في افغانستان . قبلها قال القائد الأطلسي الجنرال لسلي كلارك الكلام نفسه. حتى ترامب اشار ايضاً الى شيء من هذا القبيل بشأن "داعش" اثناء حملته الإنتخابية.
الى ذلك ، طمأن كلابر حلفاء الولايات المتحدة الى انها لن تترك المنطقة بل جزم أنها لا تستطيع ذلك. لماذا ؟ "لأنها يجب ان تكون حاضرة لتقدّم المساعدة وتتوسط وتقدّم القوة في بعض الاحيان". لم يقل إنها كانت دائماً تقدّم القوة والسلاح لإسرائيل في حروبها . لعله اراد القول إنها قد تقدّم القوة او الموافقة ، في الأقل، على قيام تركيا بشن حرب على "داعش" داخل سوريا بغية احتلال مساحة واسعة من اراضيها وتحويلها "منطقة آمنة" بذريعة إيواء النازحين السوريين .
بدعوى "ان اميركا لا تستطيع وحدها اصلاح أوضاع الشرق الاوسط"، تغاضت واشنطن عن تنامي "داعش" انطلاقاً من الموصل وصولاً الى تواجده في معظم محافظات العراق الغربية وتنظيمه مجازر متنقلة في قلب بغداد ومحيطها ومدن اخرى .
رجب طيب اردوغان استفاد من تغاضي واشنطن ، وتغاضيه هو تحديداً، عن "داعش" طيلة سنوات ثلاث كان التنظيم الإرهابي خلالها يهرّب الرجال والعتاد والنفط عبر حدود تركيا مع العراق وسوريا ليبني "دولة الخلافة" على مساحة من الارض تتجاوز مساحة بريطانيا. لكن اردوغان يتذرع اليوم بقذائف يطلقها "داعش" على مدينة كيليس التركية الحدودية ليهدد بالتوغل داخل سوريا لتأديبه ولإقامة ... المنطقة الآمنة الموعودة.
"داعش" بات حقيقة وذريعة. فهو من جهة حقيقة عسكرية وسياسية واعلامية متنامية تهدد جدّياً من يعتبرهم التنظيم اعداءً له، وهو من جهة اخرى ذريعة عسكرية وامنية جاهزة للإستغلال من قبل "أعدائه" انفسهم ضد اعداء آخرين هم ، في الواقع، اعداء الطرفين معاً !
يعدّد كلابر المشاكل الرئيسية التي يواجهها وسيواجهها الشرق الاوسط: التحديات الإقتصادية ، توافر السلاح ، الزيادة الكبيرة في عدد الشباب المهمّشين ، والمناطق المتعددة التي لا توجد فيها سيطرة حكومية لمدة طويلة .
لعل ابرز التحديات الاقتصادية تدنّي سعر النفط وبالتالي تناقص عائداته لدى الدول المنتجة. يقول كلابر إن اميركا ليست الان بحاجة الى الشرق الاوسط اقتصادياً . لماذا ؟ ربما لأنها باتت مكتفية ذاتياً بعد اكتشافها النفط الصخري والقدرة على استثماره وتصديره . لكن ، أليس تناقص عائدات النفط مشكلة ستزداد حدّة مع حاجة دول الخليج المنتجة الى المزيد من المال لشراء المزيد من الأسلحة لإستخدامها في حروب إقليمية، ولا سيما حرب اليمن ؟
ليست دول الخليج وحدها من سيكون بحاجة الى المزيد من العائدات لشراء المزيد من السلاح. ايران وحتى روسيا ستكونان بحاجة ايضاً الى مزيد من الاموال لتوفير المزيد من الأسلحة . ها هي اميركا تقوم بتركيز منظومة الدرع الصاروخية في رومانيا وسط اعتراض وغضب شديدين من روسيا. كانت واشنطن تقول إن المراد منها مواجهة ايران وبرنامجها النووي. لكن واشنطن وطهران توصلتا الى اتفاق نووي يجعل اميركا وحلفاءها بمأمن من خطر نووي ايراني ، فلماذا الإصرار على تركيب منظومة صاروخية متطورة في رومانيا على مقربة من حدودها مع روسيا؟ هل تشكّل روسيا خطراً على امن رومانيا او على امن حلف "الناتو" وسائر اعضائه الاوروبيين ؟
كلا ، لأن الغاية من ادخال المنظومة الصاروخية المتطورة هي إكراه روسيا، وايران ايضاً ، على ولوج سباق تسلّح مُكلف للغاية يؤدي الى إرهاق الخزينة الروسية (والإيرانية) وتالياً الى اضعاف روسيا بما هي القطب المرشح ليكون نداً للولايات المتحدة في اوروبا والشرق الاوسط.
لعل التسمية اللائقة بهذه السياسة الاميركية القديمة - الجديدة هي المشاغلة. اجل ، مشاغلة منافسي اميركا الحاليين واعدائها المحتملين بسباق تسلّح مرهق إقتصادياً، وبتنظيمات إرهاب وحشية مرهقة امنياً واجتماعياً بقصد إضعافهم وتقليص خطرهم على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها ، ولاسيما في الشرق الاوسط الكبير.