نشرت بجريدة"القدس العربي" والبناء
تاريخ 9/5/2016
المفاوضات للكبار ... الحرب للصغار
د. عصام نعمان
قلّما تفشل مفاوضات بين لاعبين كبار. قد تتعثر ، لكنها لا تتوقف. ما من مرةٍ اجتمع جون كيري وسيرغي لافروف وانتهى اجتماعهما الى خلاف. الإختلاف بين الكبار ممكن. الخلاف مستبعد ، اقلّه غير معلن . ذلك ان المفاوضات بين الكبار اضحت نهجاً في العلاقات الدولية يعتمد التنافس السياسي والاقتصادي بدلاً من الصراع الساخن وذلك تفادياً لسفك الدماء والتدمير الشامل المتبادل.
الحرب، في العصر النووي ، ليست للكبار . الكل يخسر في الحرب، لذلك تمّ الإتفاق بين الكبار على عدم الإنزلاق اليها بأي ثمن . اذا لم يكن بدّ من حرب، لسببٍ او لآخر ، فلتكن بالوكالة بين لاعبين صغار ينتمون الى هذا اللاعب الكبير او ذاك. والحرب بالوكالة لا تكون بين الصغار لمصلحة الكبار فحسب بل تكون ايضاً ودائماً على ارض الصغار.
اللاعبون الكبار مستعدون لتحمّل جزءٍ من تكلفةٍ مادية لحرب يُكرِهون فيها اللاعبين الصغار على تحمّل معظم تكلفتها ، لكنهم يتفادون دائماً دفع تكلفتها البشرية. هل جرت ، بعد الحرب العالمية الثانية ، اي حرب على ارضٍ للاعبين كبار؟ هل دفع احد الكبار في الماضي القريب تكلفة بشرية لحرب بالوكالة شنها عبر لاعبين صغار؟ كلا ، بالتأكيد .
لنعد الى الحاضر: أليست الحروب الدائرة في سوريا والعراق واليمن وعليها حروب بالوكالة بين اميركا وروسيا عبر لاعبين صغار؟ الجواب: نعم ، ثمة لاعبون صغار لكنهم ليسوا دولاً في غالب الاحيان . إنهم تنظيمات تعمل لدى لاعبين كبار دوليين ولاعبين كبار اقليميين .
ربما لهذا السبب طالت ، وستطول اكثر ، الحروب في سوريا والعراق واليمن وعليها. فاللاعبون الكبار الدوليون اصبحوا يعايشون لاعبين كباراً اقليميين قادرين على منافستهم بإستئجار لاعبين صغاراً وزجّهم في حروب بالوكالة تجري خارج اراضي اللاعبين الاقليميين الكبار.
لنضع النقاط على الحروف : تركيا والسعودية ، وهما لاعبان اقليميان كبيران، يشنّان في سوريا والعراق واليمن حروباً بالوكالة لمصلحتهما بالدرجة الاولى ولمصلحة اللاعبين الدوليين الكبار جزئياً. ايران ستضطر عاجلاً او آجلاً ، ازاء تصعيد الولايات المتحدة وحلفائها الاقليميين ضغوطها عليها بعد انبرام الإتفاق النووي، الى شن حروب بالوكالة لردع اعدائها الدوليين والإقليميين .
ما عاد في وسع اللاعبين الدوليين الكبار الهيمنة على اللاعبين الإقليميين الكبار كما في الماضي التليد . لا اميركا قادرة على الهيمنة على تركيا ، العضو في حلف "الناتو"، ولا هي قادرة على لجم السعودية التي تجمعهما منظومةُ علاقات ومصالح كبرى منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية . هذا لا يعني ان اميركا وروسيا لا تستفيدان من الحروب بالوكالة التي يشنها لاعبون اقليميون كبار في المنطقة. وهل يمكن نسيان ما فعلته وتفعله اسرائيل لمصلحتها ومصلحة اميركا في المنطقة منذ قيامها في العام 1948؟ المهم ان اسرائيل وتركيا والسعودية وايران اصبحت على مستوى من القدرات وهوامش من حرية الحركة تمكّنها من القيام بمبادرات ، بل بحروب، بمعزل عن الولايات المتحدة وروسيا ، وحتى من دون استئذان احياناً.
في ضوء هذه الواقعات والإعتبارات ، ما مستقبل الحروب بالوكالة الدائرة حالياً في سوريا والعراق واليمن ، وهل للمشاورات الدائرة في جنيف والكويت حظ في النجاح؟
لا يبدو ان الحرب في سوريا والعراق واليمن وعليها تتجه الى التوقف في المستقبل المنظور. بالعكس ، يبدو ان لدى اهل القرار في كل من تركيا والسعودية إقتناع بأن سياسة الولايات المتحدة ، بعد إنتهاء ولاية باراك اوباما اواخرَ العام الحالي، ستكون مغايرة ، بل اكثر تشدداً . مؤدّى ذلك تعزيز مواقف الصقور بين اهل القرار في انقرة والرياض وحلفائهم في واشنطن الداعية الى التصلّب وتكثيف الضغوط على اعدائهم ومنافسيهم الاقليميين .
ثمة شواهد لافتة في هذا المجال:
· إعلان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير مجدداً "ان على الرئيس بشار الاسد الرحيل سلماً وإلاّ بالقوة".
· رفض وفد المعارضة السورية الآتي الى مفاوضات جنيف من الرياض وجود الأسد او ايٍّ من فريقه الحاكم في هيئة الحكم الإنتقالية المقترح انشاؤها.
· محاولة واشنطن حذف "جبهة النصرة" من قائمة التنظيمات الإرهابية بذريعة تسهيل اجتذابها الى إلتزام الهدنة المطلوب بسطها على مختلف المناطق السورية المنخرطة في الاشتباكات . اللافت ان رد "النصرة" على رفض دمشق وموسكو طلب واشنطن تمثّل في حشد قوات اضافية ، بعضها من تركيا ، وشن هجومٍ واسع من عدة جهات في محاولة لإنتزاع مدينة حلب ومحيطها من الجيش السوري.
· تعثّر المحادثات بين الأطراف السورية في جنيف والأطراف اليمنية في الكويت وذلك على إيقاع خروقٍ متعمّدة للهدنة في كلٍ من سوريا واليمن.
· الكشف عن اجتماعات عقدها مسؤولون سعوديون كبار "متقاعدون" مع مسؤولين امنيين اسرائيليين "متقاعدين" ايضاً كان آخرها لقاء الامير تركي الفيصل ، رئيس الإستخبارات السعودية السابق ، مع الجنرال ياكوف عميدرور، رئيس مجلس الامن القومي الإسرائيلي السابق ، في سياق ندوة نظمها "معهد واشنطن لدراسة سياسات الشرق الأدنى".
هذه التصريحات والمبادرات واللقاءات تشكّل شواهد ناطقة بإرادات اللاعبين الإقليميين الكبار بإتجاه متابعة الحروب الدائرة في سوريا والعراق اليمن وعليها بل تعزيزها لغاية الوصول الى اغراض جيوسياسية ، بعضها معلن وبعضها الاخر مضمر.
لعل اخطر الاغراض المعلنة في هذا المجال تغييرُ نُظم الحكم في كلٍّ من سوريا والعراق واليمن وليس مجرد الإطاحة برؤوسها . فالمطلوب تغيير مجمل النظم القائمة هناك بحكّامها ومؤسساتها وسياساتها لتأمين دورانها مستقبلاً في افلاك لاعبين إقليميين كبار على صلةِ تحالفٍ وتعاون مع لاعبين دوليين كبار.
لأن الغرض المعلن كبير وخطير ، والصراعات التي تكتنفه طويلة وقاسية، فإن الحروب المستعرة في سوريا والعراق واليمن ، ولاسيما في فلسطين ، ستبقى ناشطة ومتأججة ولن تضع اوزارها في المستقبل منظور.