نشرت بجريدة "الخليج" والبناء"
تاريخ 7/5/2016
اليأس من السياسة ... الأمل بالتغيّر
د. عصام نعمان
تتيح الإنتخابات ، نظرياً ، فُرصاً للتعبير والتغيير. في الإنتخابات البلدية التي يبدأ فصلها الاول غداً ، يبدو اللبنانيون غير معنيين ، لا بالتعبير ولا بالتغيير . لماذا؟
لأن اليأس من السياسة والسياسيين بلغ حداً باتت معه الإنتخابات مجرد طقس من الطقوس التقليدية المملة والمفرغة من اي معنى او منفعة.
مَن يستمع الى الناس في برامج استطلاع الرأي التلفزيونية يُدرك حجم هذه الظاهرة اللافتة . فاليأس من السياسيين تحوّل يأساً من السياسة وجنوحاً الى الإبتعاد عن كل مظاهرها ومناسباتها.
كان منتظراً من الناس الذين عانوا ويعانون ضائقة معيشية خانقة ، ونفايات متراكمة في الشوارع وبين المنازل ، وانقطاعات متواصلة للتيار الكهربائي ، وشحاً في مياه الشرب ، وبطالة متصاعدة ، وقصوراً مزمناً في الأداء الحكومي ، وتقصيراً فاضحاً في المؤسسات الصحية والإجتماعية ان يغضبوا ويثوروا وان يترجموا سخطهم الى عمليات تغيير واسعة في المؤسسات والأجهزة وبالتالي في القيادات المسؤولة عن كل هذا الفساد المستشري والإنهيار الشامل. غير ان الحاصل هو العكس: صمت وهجوع وقنوط يكاد لا يتجاوز مستوى التململ واليأس الشامل.
صحيح ان هذا المناخ السلبي لا يخيّم على الناس جميعاً ، وان ثمة اعتراضات واحتجاجات وتحركات هنا وهناك وهنالك ، لكن ذلك يتجلّى في جزر محدودة المساحة والفعالية والتأثير . إنها الإستثناء الذي يؤكد القاعدة.
اسبابٌ وعوامل كثيرة تقف وراء هذه الظاهرة الخطيرة والمتمادية . غير ان اهمها ، في رأيي ، ثلاثة : إنحسار فعالية القيادات الوطنية ، واتساع تأثير القوى الخارجية ، واستشراء اليأس بين الناس، اليأس من السياسيين ، وبالتالي من السياسة.
هذه الظاهرة ، بل هذه الحال الكيانية المرَضية لا يقتصر وجودها على لبنان بل هي تشمل ، بدرجات متفاوتة ، جميع بلاد العرب . لعلها تحاكي حال العرب عشية اندلاع حرب الفرنجة ، المسماة خطأ حرب الصليبيين ، على غرب آسيا بما فيها مشرق العرب.
وجود الفرنجة دام نحو 200 سنة قبل ان يتمكّن الظاهر بيبرس ومن ثم قلاوون من بناء قوة ذاتية مقتدرة في مصر تكفّلت إضعافهم ثم طردهم. ابرز الدروس المستفادة من الصراع الطويل مع الفرنجة ان لا سبيل الى الإنتصار على قوة اجنبية غازية ثم متجذرة إلاّ ببناء قوة ذاتية مقتدرة ومستقلة.
العرب لم يستوعبوا هذا الدرس جيداً بدليل انهم لم ينجحوا في بناء قوة ذاتية مستقلة في مصر قادرة على إضعاف الاتراك العثمانيين بغية طردهم . بالعكس ، ما فعله نفر غير قليل من القياديين العرب في عهد السلطنة العثمانية هو التعاون ، بل التواطؤ، مع دول اوروبية صاعدة، بريطانيا وفرنسا خاصةً ، للإجهاز على "رجل اوروبا المريض" وتقاسم ميراثه من دون ان يحصلوا ، لقاء خدماتهم في هذا السبيل، إلاّ على وعود عرقوبية.
ليس في بلاد العرب ، حاليّاً ، محاولة جدّية وجادة في ايٍّ من دولهم لبناء قوة ذاتية مقتدرة تكون على مستوى الأمة وفي خدمة اهدافها ومصالحها. ثمة محاولات قُطرية انمائية ، بعضها ناجح وبعضها الآخر متعثّر ، لكن ايّاً منها غير مهيء لأن يصبح نواةَ قوة ذاتية وازنةعلى مستوى الأمة وفي خدمتها.
في غمرة هذا المخاض الذي يلفُّ القارة العربية من مشرقها الى مغربها ، يقتضي ان يكون للقوى النهضوية الحيّة مهمة ودور ، لعلهما يتجسدان في سؤال وحركة . السؤال هو: كيف نتغيّر ؟ بعد الإجابة عن هذا السؤال يأتي دور الحركة التي يُفترض أن تضع مضمون الجواب قيد التنفيذ.
غير أن المهم ان نقتنع جميعاً ، و لاسيما القياديين النهضويين ، بأن التغيّر شرط للتغيير وسابق له . عندما نتغيّر نتمكن من التغيير. فالتغيير نتيجة للتغيّر، وهو جهد ذاتي وليس فعلاً خارجياً . مهمةُ القياديين النهضويين في تاريخنا المعاصر هو طرح هذا السؤال المفتاحي: كيف نتغيّر ؟ ثم الإجابة عنه في سياق معطيات الزمان والمكان والحاجات والتطلعات .
التركيز على مهام التغيّر ينتجُ ، في المدى الطويل ، ثقافة مغايرة هي ثقافة النهضة ، ومن خلال ثقافة النهضة يستطيع النهضويون إجراء تغييرات بنيوية في المؤسسات القائمة ، كما العمل لبناء مؤسسات حديثة .
صحيح ان مسار التغيّر والنهضة طويل وشاق ، لكنه يبقى ادنى تكلفة ومشقة من المراوحة في مستنقع التقليد والإجترار وتقبّل الراهن كأنه قدر مقدور.